تحولت أزمة السودان إلى فصل جديد مع اشتداد المعارك بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في إقليم كردفان الذي بات جبهة للقتال الأكثر فتكاً بالمدنيين. وظل المدنيون يدفعون ثمناً باهظاً جراء تصاعد العمليات العسكرية في الإقليم والحصار المضروب على مدن الأبيض، كادوقلي والدلنج، ما أنتج موجة من النزوح الجماعي المتزامنة مع نذر المجاعة التي تلوح في الأفق في وقت تم فيه إجلاء العاملين في المنظمات الدولية العاملة في جنوب كردفان.
تشير عدة تقارير حقوقية إلى وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، شملت القتل، تدمير البنية التحتية، وتعطيل وصول الإغاثة المنقذة للحياة، ما يعد خرقاً للقانون الإنساني الدولي.
يسلط هذا التقرير الضوء على الأهمية الاستراتيجية لإقليم كردفان التي جعلته أرضاً للمعارك بين الطرفين وساحةً لغاراتهما الجوية والانتهاكات ضد المدنيين. كما يكشف عن حجم الكارثة الإنسانية المتفاقمة التي تواجه مئات الآلاف من السكان المحاصرين والمشردين في ظل صعوبة الوصول إليهم.
استمرار العمليات العسكرية
بعد انسحاب قوات الدعم السريع من ولايتي الجزيرة والخرطوم في مطلع العام 2025م، بات إقليم كردفان ساحة لمعاركها مع القوات المسلحة، في الوقت الذي دخلت فيه الحركة الشعبية- جناح عبد العزيز الحلو، كفاعل أساسي في جنوب كردفان ضمن تحالف تأسيس لتقاتل بجانب قوات الدعم السريع. وبالتالي أصبحت مناطق كردفان خاصة المتاخمة لمدن الأبيض، الدلنج، وكادوقلي، والفولة، ساحة للمعارك المباشرة بين أطراف الحرب. وقد أسفرت المعارك عن تغيير خرائط السيطرة مع تقدم متبادل للطرفين في بعض المناطق.


ضحايا المعارك

قالت الناشطة الحقوقية، نون كشكوش، لسلاميديا أن حصار مدينتي الدلنج وكادوقلي يمثل إحد أكبر المآسي الإنسانية في الإقليم، إذ قام طرفا الحرب بفرض قيود مشددة على الطرق المؤدية للمدينتين، مما منع وصول المساعدات الإنسانية تكراراً لسيناريو حصار الفاشر. وسبب الحصار المضروب على المدينتين مجاعة فعلية في كادوقلي، حيث فقد عدد كبير من السكان حياتهم جراء الجوع، مع ارتفاع معدلات سوء التغذية ــ بحسب قولها.
النزوح وتفاقم الأزمة الإنسانية
أجبر القتال في مدن كردفان آلاف المدنيين على النزوح، وتحدث نازحون لسلاميديا عن اضطرارهم للسير مسافات طويلة عبر طرق محفوفة بالمخاطر، في ظل غياب وسائل النقل وارتفاع تكلفة الترحيل. وأشارت تقارير بعض المنظمات الاممية الى نزوح ما يقدَّر بـ 213 ألف شخصاً خلال العام 2025م، بسبب اشتداد القتال وانعدام الأمن والغذاء في اقليم كردفان.

تقول إحدى النازحات إنها فرت من الخرطوم بعد سيطرة القوات المسلحة على العاصمة ووصلت الى مدينة النهود ومن ثم اضطرت للنزوح مرة أخرى إلى مدينة الفولة، بحثاً عن الأمان لابنائها الثلاثة الذين من بينهم طفلة معاقة. وذكرت النازحة ــ التي فضلنا حجب اسمها ــ أنها الآن تعيش مع أطفالها في عريشة (مظلة) مفتوحة، وتعتمد في الحصول على قوتها مع ابنائها على ما تكسبه مقابل غسل الملابس في الأحياء القريبة؛ وأضافت “إن تعذّر ذلك فأضطر إلى التسول كي أطعم ابنائي، هو شئ مهين للكرامة لكن ليس لي خيار”
ما تعيشه هذه النازحة تؤكده بثينة حماد، الناشطة الاجتماعية بمدينة الفولة بوصفها الوضع في مراكز الإيواء بالمدينة بالكارثي، في ظل غياب الخدمات الأساسية، وانتشار الأمراض، وانعدام أي مؤشرات للتحسن قريباً. وقالت حماد، التي زارت المراكز قبل أيام من تصريحها لسلاميديا، “الناس ما قادرة تصمد، الحرب لو استمرت أكثر من كده ما حنقدر نواصل، هنا توجد مأساة حقيقية تستحق التدخل الفوري”
في ذات السياق قدّمت (م. أ. ع) النازحة من محلية بابنوسة بولاية غرب كردفان، رواية مؤلمة عن رحلة النزوح الطويلة التي خاضتها. وقالت لسلاميديا “مشينا بالاقدام من بابنوسة إلى قرية (أم عُش)، الناس باتوا في الخلا وما كان في موية ولا أكل، وناس نسوا أولادهم من الخوف، وناس مرضوا وماتوا من الجوع والعطش”.
وعقب وصوله الى القاهرة حديثاً، كشف أحد سكان مدينة الأبيض بشمال كردفان، عن صورة قاتمة للأوضاع الإنسانية والأمنية المتدهورة في المدينة. مؤكداً أن موجات نزوح غير مسبوقة اجتاحت الأبيض خلال أشهر أغسطس، سبتمبر وأكتوبر 2025م. وقال الشاهد في حديثه لسلاميديا إن مناطق حاج أحمد، بارا والزريبة الواقعة شرق الأبيض، إضافة الى أن قرى جنوب وغرب المدينة، وصولاً إلى مناطق كازقيل، النهود، الخوي، أم صميمّة والخماسات، خلت تقريباً من سكانها، وأضاف “شمالاً من بارا لحد الأبيض، ما في ولا قرية واقفة”
وقال الشاهد رغم وصول آلاف النازحين إلى الأبيض، إلا أن السلطات المحلية لم توفر أي مأوى لهم، بل إن بعض المدارس ظلت مغلقة، بينما احتلت مجموعات مسلحة المدارس المفتوحة. وأوضح أن كثيراً من النازحين اضطروا إلى السكن في الشوارع أو تحت الرواكيب المصنوعة من المشمعات، بينما استأجر المقتدرون منازل بأسعار تتراوح ما بين 500 و700 ألف جنيه سوداني. وقال ان السلطات ظلت غائبة تماماً عن تقديم الغذاء أو أي نوع من الإغاثة، وأضاف “والله العظيم الحكومة لحد ما أنا طلعت ما قدمت حتى كيس عدس واحد لزول نازح”
النساء الأكثر عرضة للانتهاكات
في ظل التطورات العسكرية التي يشهدها إقليم كردفان يتعرض المدنيين للكثير من الانتهاكات التي يرتكبها أطراف الحرب فبالاضافة إلى القتل. ويصف الحقوقيون ولايتي شمال وجنوب كردفان بأنها من المناطق التي تشهد معدلات مرتفعة للعنف الجنسي، خاصة ضد النازحات من القرى إلى مدينتي الأبيض و الدلنج. وقد تمكنت بعض الناجيات من تقديم شكاوى جنائية والحصول على (اورنيك 8 الطبي) لتلقي العلاج. وكشف مصدر طبي داخل مستشفى الأبيض عن تسجيل 36 حالة اعتداء جنسي وجسدي على النساء ما بين شهري يوليو وسبتمبر 2025م، بعد أن اقتحمت قوات الدعم السريع والجيش السوداني والقوات المتحالفة معهما عدداً من قرى ولاية شمال كردفان. بينما منعت السلطات بجنوب كردفان خروج المواطنين من مدينة كادوقلي التي تعيش حصارا محكما من قبل الحركة الشعبية والدعم السريع، إلا أنه مؤخرا بدأت عملية إجلاء العاملين في المنظمات الدولية بواسطة بعثة (اليونيسفا).
وكشفت المحامية والمدافعة عن حقوق الإنسان، رحاب المبارك، عن انتهاكات واسعة طالت النساء في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع في ولايتي غرب وشمال كردفان شملت حالات اغتصاب، اختطاف، اعتقالات تعسفية ومحاكمات جائرة تحت مواد تتعلق بالتعاون مع قوات الدعم السريع. وقالت المبارك، في مقابلة مع سلاميديا إن النساء في مدينة النهود كنّ يُختطفن بقوة السلاح من أمام أسرهن ثم يُعاد بعضهن في اليوم التالي في ظروف مهينة. وأضافت أن كثيراً من الأسر غادرت المدينة على خلفية تلك الاعتداءات.
وأكدت رحاب أن القوات المسلحة نفذت حملة اعتقالات في الأبيض طالت الرجال والنساء بتهم تتعلق بتقويض النظام الدستوري واثارة الحرب ضد الدولة؛ وفق المادتين 50 و51 من القانون الجنائي. وقالت إن 56 امرأة، معظمهن من أم صميمّة وأم عردة والمناطق الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع، تم القبض عليهن من قبل السلطات في الولاية بعد وصولهن الأبيض؛ والآن يواجهن تهم تتعلق بالزنا والتعاون لمجرد ارتباطات أسرية أو اجتماعية بأفراد من الدعم السريع.
وكشفت أن المحققين في الأبيض استخدموا تطبيقات لاستعادة الرسائل المحذوفة من الهواتف منذ 2019م، وأن بعض النساء حوكمْن بسبب رسائل قديمة أو علاقات قرابة مع أشخاص من الدعم السريع. وتطرقت إلى حالة صادمة لامرأة متزوجة من أحد مقاتلي الدعم السريع الذي اغتصبها وهي قاصر قبل أن يُقتل. ورغم أنها كانت ضحية، قالت رحاب إن السلطات أمرت بجلدها 100 جلدة وألزمتها بغرامة مالية “هي مغتصَبة وقاصر، ومع ذلك حُكم عليها كجانية“.
وأضافت أن إحدى المحتجزات تعرّضت أثناء التحري للتحرش من ضابط داخل القسم، وعندما قاومت اعتدى عليها بالضرب حتى نزفت قبل أن يزج بها في السجن. وأشارت رحاب أن طفلة عمرها أربعة أشهر ظلت محبوسة مع والدتها قبل تسليمها إلى أسرة ذويها لاحقاً، بينما لا يُعرف مصير أطفال بقية المحتجزات.
وعززت القانونية نون كشكوش ما ذهبت إليه رحاب المبارك، بقولها إن معاناة النساء لا تتوقف عند لحظة النزوح، بل تتواصل حتى عند وصولهن إلى مدينة الأبيض، حيث تُحاكم الكثيرات منهن بتهم تتعلق بالتعاون مع الدعم السريع، رغم أن أغلب الحالات لا تستند إلى أدلة حقيقية. وأوضحت أن معظم النساء اللائي وُجّهت إليهن هذه الاتهامات، كانت علاقتهن الوحيدة بالقضية أنهن زوجات أو قريبات لأفراد من قوات الدعم السريع، مؤكدة أنهن يدفعن ثمن شيء لا علاقة لهن به.
وأضافت كشكوش أن مناطق مثل النهود، بارا والدبيبات شهدت انتهاكات خطيرة ترقى إلى جرائم الحرب، ارتكبتها قوات من الطرفين.
وأكد الشاهد ــ الذي تحدث لسلاميديا ــ أنه سمع عن حملات اعتقال واسعة بحق النساء بمدينة الأبيض بتهمة التعاون مع الدعم السريع، واصفاً التهم بأنها أصبحت أسوأ وسيلة لتصفية الحسابات، خاصة وسط الناشطات، مضيفاً أن النساء يتعرضن للمضايقات والاعتداء جسدي أيضاً. وأوضح أن النساء النازحات اللائي يعملن في بيع الشاي أو الخدمات الهامشية يُسمح لهن بالعمل، بينما يتعرضن للضغط والابتزاز بسبب حاجتهن. وأكد أن أفراداً من مختلف القوات، بما في ذلك القوات المسلحة، يمارسون ضغوطاً مالية على المواطنين، قائلاً “رواتبهم قائمة على المواطن، يشيلوا من الناس فطورهم ومصاريفهم”.
دعوة للمناصرة
ذكرت نون كشكوش أن إقليم كردفان يعيش اليوم واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والحقوقية في السودان، ويُعد الأضعف حالاً مقارنة ببقية مناطق النزاع لتعذر الحصول على المعلومات؛ وعزت ذلك إلى الانقطاع الطويل لخدمات الإنترنت، ما جعل رصد الانتهاكات عملاً بالغ الصعوبة. وأوضحت أن الطابع الجغرافي والسياسي لكردفان زاد تعقيد المشهد؛ فبعض مناطقه تخضع لسيطرة الحركة الشعبية، بينما تقع أجزاء من غرب كردفان على تماس مع إقليم دارفور، حيث تتداخل قبائل عديدة، مما جعل الإقليم عرضة لتحول الحرب إلى نزاع ذي طابع إثني بين الأطراف المتحاربة. وشددت كشكوش على أن الوضع في كردفان يحتاج إلى وقفة عاجلة، رصد دقيق، حملة واسعة للمناصرة الدولية وتسليط الضوء على الانتهاكات التي يتعرض لها المدنيين في جميع أنحاء الإقليم. وأكدت أن استمرار هذا الوضع دون تدخل سيؤدي إلى تفاقم الكارثة الإنسانية وترك ملايين المدنيين تحت طائلة الانتهاكات والحرمان والجوع.
وفق مجريات الأحداث في إقليم كردفان، فإنه من المرجح أن تتكرر كارثة الفاشر حيث يغيب رصد الانتهاكات والاستجابة الإنسانية عن معظم المناطق المتأثرة بالنزاع؛ ويستدعي ذلك تدخلاً عاجلاً لوقف القتال وفتح الممرات الآمنة، قبل أن تتفاقم الكارثة إلى مجاعة شاملة في الإقليم المنسي.
