الخرطوم:حسين سعد

تواصل هذه الحلقة تتبع خطى التحولات السياسية في كثير من التجارب الدولية لعملية التحول الديمقراطي في السودان عقب الثورة التي أطاحت بالنظام البائد ،وفحص العوامل المتداخلة ،والفاعلة مباشرة في هذا التحول، وتتبع خطى التحول ذاته من خلال عرض شامل للأطر النظرية والمداخل والإقترابات التي يمكن من خلالها تناول الظاهرة لتغطية أبعادها، ومستوياتها، تعريفًا وتحليلاً وتأريخاً لماضي تلك التحولات الأساسية التي تركت بصماتها على واقع المجتمع، وتطور نظامه السياسي لترسخ نظريات، وتفسر ظواهر الانتقال الديمقراطي، والتزاماته، وإنجازاته،

ووعوده بشكل عام من خلال فكفكت الفاعليين الرئيسيين ومن هم؟ وماهي السياقات التفسيرية؟ والخبرات التاريخية ،وسنتابع في هذا المقال نمازج للانتقال الديمقراطي ،وما هي الأكثر قربا من الحالة السودانية؟ وماهي فرص التغيير؟

التحول بين الواقع والضرورات:

إن خيارات التحول في السودان، تتطلب مراجعة تجربته الديموقراطية السابقة، والتي يصفها البعض بالفاشلة،واستقراء الوضع الداخلي ،والوضع الإقليمي من جهة أخرى ،باعتبار ان تفاعل هذه الظروف قد يكون متصلا، وقد يكون منفصلا ،وقد يكون تفاعلا ذاتيا، وقد يكون تفاعلا عرضي، هناك عوامل مؤثرة في التحول الديمقراطي تلعب دور محوري ،ومن أهم هذه العوامل العامل الاقتصادي كمؤشر على اقتصاديات الدولة، ومدى تحكم السلطة بها، وانعكاسه على الدخل الفردي، ومؤشرات التنمية البشرية ، ومستوى الانتاج العلمي الذي يعكس مدى مكافحة السلطة للأمية، واهتمامها بعملية التربية والتعليم،إضافة لمؤثرات أخرى بجانب الخيارات السياسية المحورية التي قامت بطرحها الجهات الفاعلة المحلية أثناء عملية التحول،بما في ذلك القرارات التي تم اتخاذها المتعلقة بخضوع السلطات المسلحة للسلطة المدنية،والانتخابات ووضع الدستور، والعدالة الانتقالية،وتماسك الدولة والمجتمع ،والحدود الغير مستقرة،والخيارات السياسية الخارجية بما في ذلك الجهود المبذولة من الجهات الخارجية الفاعلة لترسيخ دعائم الديموقراطية.

الأنظمة الشبه سلطوية:
وفي دراسة لمركز كارينجي للشرق الأوسط يذكر ناثان ج براون آنه ليس واضحا حتى الآن بعد انفتاح فضاء التعبير، والعمل رغم وجود حدود قاسية له إلى أي مدى يمكن للإصلاحيين والثوريين المحتملين ، بالرغم من جهودهم الشجاعة والمقدامة، أن يتغلبوا على الأنماط المؤسسية العميقة للحكومة.إذ لا تزال معظم الأنظمة العربية تقطن منزل هجين من شبه السلطوية : فلا هو سلطوي بالكامل،في إطار القسوة التي يتضمنها هذا التعبير الأخير،ولا هو ديموقراطي ذو معنى، ومضمون يسمحان للشعب اختيار حكامه،فالأنظمة الشبه سلطوية هي تلك الأنظمة التي تسمح للمعارضة ببعض الحيز لتنظيم نفسها، والتنافس ، لكنها تنكر عليها أي إمكانية لتشكيل الحكومة ، بينما الأنظمة السلطوية بالكامل لا تسمح للمعارضة بالعمل حتى وفق هذه القواعد، وفي ظل الشبه سلطوية ، قد تبرز المنظمات الاجتماعية المستقلة بل وحتى تزدهر، لكن من غير المسموح لها أن تخطو بعيدا نحو مملكة السياسة من دون المخاطرة بالتعرض إلى القمع فالمعارضة لا تستطيع أن تتكلم،وتنظم أو تعمل في المجال السياسي، أما الديموقراطية في المقابل ،فهي تسمح للمعارضة بالفوز ،فالإنظمة الشبه سلطوية هي منطقة رمادية اخترعت بهدف تصنيف هذه الأنظمة على أنها مستقرة أكثر من كونها محطات على طريق الديموقراطية وفق ناثان ج براون،لذلك كانت الانتخابات بالنسبة للأنظمة الشبه سلطوية هي شعارات سياسية تستطيع من خلالها استقطاب التفاف جماهيري حولها في مهرجان الانتخابات المعروفة النتائج مسبقا، والنموزج في السودان انتخابات 2010 م وابريل 2015م ،تلك الانتخابات المضروبة والتي وصفها الشعب بإنتخابات (الخج) وحرص النظام البائد من خلالها تعيق نفوذه بأدوات ديموقراطية كوسيلة للهيمنة، وليس لمزيد من الحريات والعدالة،وفي نفس الدراسة يذكر ناثان ج براون أن الأنظمة شبه السلطوية تستخدم الانتخابات لضبط المعارضة بثلاثة طرق:

(الأولى): أن الانتخابات توفر فرصا لإخراج المعارضة الى العلن، ووضعها في دائرة الضوء.

(الثانية): الاستلحاق والمدالسة، ومن ثم دفع المعارضة لدعم النظام.

(الثالثة): استخدام الانتخابات لتحقيق مبدأ فرق تسد.

فرص التغيير:

وفق تجارب الدول،أو في ما أسماه المفكر السياسي الأمريكي صامويل هاننغتون بالموجة الثالثة من التحول الديمقراطي، سيكون أمامنا خمسة نمازج للتحول الديموقراطي على النحو التالي:

التحول عبر مبادرة النظام
وهو التحول الذي يتم من خلال مبادرة النخبة الحاكمة لقيادة عملية التحديث في النظام، وهو ما يؤدي في العادة إلى نقل الدولة من صفتها الشمولية والاستبدادية إلى الصفة الديموقراطية.

التحول عبر نقل السلطة:
إذا كان النظام السياسي ضعيفا ويفتقد إلى القدرة اللازمة على اتخاذ القرار، فإن المعارضة التي تكون في وضع آفضل نسبيا سوف تدفع السلطة إلى الدخول في مفاوضات حول حاضر البلاد ومستقبلها.

التحول بالقطيعة:
هذا التحول يحصل عندما يعصف بالنظام ضعف عام ، وتظهر قوة المعارضة ويتضاعف نفوذها ، لكنها لا تحاول العودة إلى الماضي، والركون إلى السياسات التقليدية التي تخدم النظام، وإنما تسعى بجد لا يخلو من مغامرة إلى خلق شرعية سياسية جديدة مفارقة للنظام القائم ومتعارضة معه ، في مسعى لتعريته من الشرعية السياسية التي يتدثر بها.

التحول بضغط الخارج:
وهو التحول الذي يأتي تحت ضغط الخارج في حال قوة السلطة، وسيطرتها وهشاشة المعارضة وضعفها، ووجود توجه دولي خاصة من القوى المؤثرة بضرورة التحول الديموقراطي في هذا البلد أو ذاك كونها تعتبر تلك الأنظمة مهددة للاستقرار ولمصالحها.

التحول بالعدوى الديمقراطية:

وهو الذي تجري وقائعه تحت تأثير العدوى الديموقراطية أوما يطلق عليه نظرية الدومينو يعتبر السودان رائد في هذه الثورات التي حققها في كل من أكتوبر 1964- أبريل 1985- وأبريل 2019م.

النظام البائد:

بعد انتفاضة سبتمبر 2013م  أظهر النظام البائد تحولا في إدارته لواقع الثورة المعارضة له، تمثلت في الأدوات التي استخدمها في مواجهة الحراك المطلبي الذي كان شعاره كنس النظام ،حيث لجاء النظام الي حيلة ماكرة، وهي حوار الوثبة الذي شاكت فيه أحزاب خرجت من المؤتمر الوطني مثل حركة الاصلاح الان ،وحزب المؤتمر الشعبي  وبعض احزاب الفكة،وفي العام 2015م شرع النظام البائد في انتخابات مضروبة،إلا أنها انتخابات شكلية فرغت من أهدافها وغاياتها من جهة، وتحولت إلى أداة في يد السلطة تكرس فيها تهميش المعارضة، وقمع الحراك وتلمع بها صورتها أمام أنصارها في الداخل وداعميها في الخارج من جهة أخرى،حيث تم تفريغ دوائر لاحزاب الفكة، وتشكيل برمان أشبه ببرلمان الحزب الواحد.
وهو ما يؤكد من كون هذه الديموقراطيات، وسيلة إما للتدجين أو للاقصاء تلجأ لها الدول الشبه سلطوية لتكرس إما من سلطويتها، أو من نفوذها في احتواء المعارضين بشكل سلمي ،ولكنها حينما يتهدد وجودها تحت أي ظرف فهي قادرة على الانقلاب في برمجياتها الداخلية ،وتحويل مسارات كونها دولة شبه سلطوية من خلال دمج المعارضة في العمل السياسي الشكلي ،إلى دولة سلطوية لا محل للمعارضة فيها لذلك لاحظنا حرص النظام البائد على إشراك أكبر عدد من احزاب الفكة ومارس عليها ضغط سياسي، وقدم لها وعود كبيرة من بينها تفريغ دوائر لمرشيحها لدفعها نحو المشاركة كي يكتمل المشهد الشبه سلطوي أمام العالم بوجود المعارضة وإن كان وجودا شكليا،وتحذر دراسات من ان الضغط الخارجي على الأنظمة لجهة إحداث تغييرات، وإصلاحات في نظامها السياسي لتبنى مزيدا من الديموقراطية، وإشراك الشعب في الحكم،وتكمن خطورة هذا الضغط على فتح سماء الدول المعنية للتدخلات الخارجية، وهو ما يهدد سيادتها من جهة، وأمنها من جهة أخرى إلا أن حجة السيادة تزيد من فرص الأنظمة السلطوية في قمع الشعوب بحجة الاستقواء بالخارج وخرق سيادة الدولة لذلك نجد محاذير كثيرة في هذه النمط ، لكن هناك حلا وسطا في هذا النمط يحاول معالجة هواجس خرق السيادة من جهة ، ومن جهة أخرى تقلل مساحات استبداد السلطة منها نظرية الإنسان الجديد الذي يرتبط بخطين متوازيين:
(الأول) وطني ويتعلق به الشأن السياسي، وحقوق المواطن السياسية ،والثاني عالمي ويتعلق به الشأن الإنساني العام، والحقوق العالمية ،وفي المستوى الأول يكون للدولة إضافة للقوى السياسية، والاجتماعية في كل بلد أن تضع متطلبات للعمل السياسي الديموقراطي الذي يكفل حق الجميع بالمشاركة في صناعة القرار السياسي،ووضع الضوابط المنظمة لعملية المشاركة في بلورة هذا القرار، اما على المستوى (الثاني) فالدولة تقف عند خط أحمر، ولا تتعداه،وهو يتصل بكل ما يمكن أن يدخل في إطار الحقوق الأصيلة للإنسان أيا كانت جنسيته أو لونه أو عقيدته،وفي هذا المستوى يحق للمواطن أن ينظم نفسه في إطار منظمات مدنية، وإنسانية عامة تتواصل مع المنظمات الشبيهة خارج الدولة،وتشكل جماعات ضغط تمنع الدولة من التسلط،وتعيد للمجتمع المدني اهتماماته ودوره الحقيقي،ويتم ذلك بتحويل الظواهر المحلية أو الاقليمية إلى ظواهر عالمية،ويمكن هنا للقوى الثورية أن تستفيد من هذه النظرية على مستويين
(الأول):التوثيقات الداخلية لكل ما يقوم به النظام من تعديات في حق المعارضين
(الثاني):عضوياتهم في المنظمات الحقوقية الخارجية ،لممارسة دورها كمنظات مهتمة بالشأن الحقوقي في الضغط على النظام مستعينة بالتوثيقات الداخلية من جهة ،ومن قدرتها على التأثير من جهة أخرى.

تأمين المصالح:

وبحسب دراسة للاستاذ علي محمد علي (دور مؤسسات التمويل الدولية في عملية التحول الديمقراطي في ضوء الادبيات النظرية والخبرات الدولية) حيث تناولت الدراسة تطور منظومة المعونة الدولية، وتصاعد قيمة الديمقراطية إنطلاقاً من فرضية قيام العامل الخارجي بدور في دعم التحول الديمقراطي في دول العالم الثالث، وتحليل دور مصالح الدول الكبرى والمؤسسات الدولية المانحة في هذه العملية منذ انتهاء الحرب الباردة، وكذلك تفسير أثر المشروطية السياسية على السياسات الخارجية للدول المستقبلة للمعونة أو للقروض،ويري خبراء أن القوى الخارجية لا تسعى إلى دعم التحولات الديمقراطية إنطلاقا من إيمانها بمبادئ الديمقراطية في حد ذاتها، وانما رغبة في تأمين مصالحها الاستراتيجية في تلك المناطق من العالم، ومن ثم فقد يكون العامل الخارجى محايدا إزاء مسألة الديمقراطية أو حتى معوقا لها فى حالة تعارض المصالح الأخرى، ومن ناحية ثانية، فإن نوع الديمقراطية التى قد يلعب العامل الخارجى دورا فى تحفيز انطلاقها أو دعمها هى فى الأغلب ذات طابع إجرائى متمثلة فى إجراء انتخابات تعددية بشكل دورى ونزيه، كما ترتبط بشكل وثيق بالنظام الاقتصادى الرأسمالى أى هى ديمقراطية اقتصاد السوق، كما أن الدور الخارجى بوجه عام، وآلية المعونة بوجه خاص قد تكون معوق للتحول الديمقراطى حيث إنها تقدم موارداً ريعية، قد تقلل الحافز للإصلاح أو توظف سياسيا لتعزيز الولاء للنظم القائمة أو إفساد المعارضة،وأثبتت دراسات صحة فرضية انكشاف وإذعان الدول المتلقية للمعونة للضغوط التى تمارس من قبل المؤسسات المالية الدولية، بحيث تتناسب تلك الانكشافية مع مدى اعتمادية الدولة على المعونة من ناحية، وضعف أوراقها التفاوضية من ناحية أخرى، ويتمتع نظام المعونة الدولية من خلال مؤسسات البنك الدولى، وصندوق النقد الدولى بالتأثير سواء بشكل مباشر من خلال التأثير المادي على عملية صنع القرار فى الدول النامية، فضلا عن التأثيرات غير المباشرة من خلال إسباغ الشرعية على أفكار وسياسات وممارسات بعينها، لذلك برز الحديث عن أثر سلطة الأفكار، ويري خبراء أن الفصل بين دور المؤسسات المالية الدولية ودور القوى الكبرى المهيمنة فصل وهمي، وأن بناء هيكل القوة داخل تلك المؤسسات منذ نشأتها سمح للقوى الكبرى بلعب أدوارا مهيمنة، وبتوجيه سياساتها، وان كل ما يصدر عن البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي كان لخدمة مصالح وأهواء محددة، بالرغم من صعود قوى اقتصادية كالصين والهند والبرازيل مؤخرا، وحدوث تغير فيما يتعلق بنظام الحصص وبالقوى التصويتية لتلك الدول، ما زالت الولايات المتحدة تتمتع بحصة مهيمنة فى عملية صنع القرار، كذلك تأثر نظام ما بعد المشروطية بوجود مانحين جدد لا يولون مسألة طبيعة النظام أو الديمقراطية الاعتبار ومن ثم أعاد هؤلاء – خاصة الصين- هامش المناورة للدول النامية والتى كانت قد تلاشت بانتهاء الحرب الباردة، ان حدود وطبيعة المؤثرات الخارجية والتي تجلت في تدخل القوى الدولية في الشئون الداخلية للدول بحجة متابعة عملية التحول الديمقراطي ودعم عملية الاصلاح السياسي مدفوعة بمجموعة من الأهداف الخفية، والمعلنة، والتي حتما تخدم مصالحها، وأهدافها حتى وإن كان ذلك على حساب نشر قيم الديمقراطية وحقوق الانسان، كذلك أيضاً يؤثر عامل الجغرافيا والتاريخ في دعم عملية التحول الديمقراطي من عدمه، فبينما يخشى الحكام من عدوى إنتشار الثورات والحراك الشعبي وإغلاق الحدود فكرياً وأمنياً يأتي دور (الشفاتا) و(الكنداكات) من الشباب الذي تخطى أفقه حاجز الدولة ليشاهد تجارب العالم بأثرة بين يديه يومياً متسلحاً بشتى العلوم والمعارف التي ما عادت الدول تحتكر فن صناعتها، وتوجيهها كما كان يحدث في عصور مضت ،كما يأتي أيضاً دور المؤسسات الدولية المالية، والشركات عابرة القارات لتشكل مؤثراً هاماً في عملية التحول الديمقراطي عبر تدخلها في فرض المشروطية السياسية والإدارية والاجتماعية للدول التي تتعامل معها.

خاتمة:

العثرات التي تواجه الانتقال الديمقراطي  والتي أشرنا لها تدفعنا بالدفع بنصيحة غالية لقوي اعلان الحرية والتغيير لانه من غير المقبول أن تكون اليوم في خندق واحد مع الآخرين من شركاء الوطن لضرورات المرحلة السياسية ، وعند تحقيق المطالب الثورية تبدأ مسيرة الاختلاف، والتي تؤثر بشكل سلبي على استقرار المجتمع وتماسكه،وتشغل الثوار وقيادات الدولة  القادمة ببعضهم البعض بدل أن ينشغلوا ببناء الدولة التي طالها خراب منهج طال كل شي ، استقرار المجتمع، وأمنه يعتبر مؤشرا مؤثرا في تحقيق وإتمام التغيير الثوري ،فالمطلوب من الحرية والتغيير اليوم قبل الغد، وضع نظرية كاملة لكيفية الانتقال الديمقراطي تعالج فيها كل المشاكل وتستصحب الاخفاقات الماضية ، وتشكل مظلة للجميع من خلال تحقيق شعار(حرية –سلام –عدالة) وتقديم رؤية شاملة حول الدولة تكون الشراكة فيها عنوان رئيسي ، إن قوي الحرية والتغيير أمام تحديات كبيرة لتحقيق الغايات التي لأجلها قامت الثورة،وهذه الاستمرارية تتطلب النظر في الواقع الداخلي والمحيط الجيواستراتيجي ،ودراسة الخيارات المتاحة للتغيير والتحول الديمقراطي ،وتهيأة العوامل المؤثرة في عملية التحول الديمقراطي، فالمرحلة الانتقالية الجديدة تحمل في طيّاتها اختلالات المراحل السابقة، أما مدى النجاح الذي يمكن أن يتحقق، فمرهون بالمثابرة التي سيُبديها الداعمون لخريطة الحل النهائي،من قيادات الحرية والتغيير بكافة مكوناتها، مع الاعتراف مسبقًا أن المهمة لن تكون سهلة فالانتقال الديمقراطي  تجربة عسيرة  تتم من خلالها تغييرات في قواعد العمل السياسي ،ترنو الى احداث تغييرات على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمؤسسات القائمة، والفاعلين السياسيين،فنحن اليوم في مرحلة تتسم بضراوة المعركة بين القديم، والجديد الاصل، والاستثناء، وبين مراكز النفوذ وشبكات المصالح للدولة العميقة ،وكشفت كل تجارب الاولين والآخرين ان التضحية هي العنوان الابرز، وان مفتاح العبور بتجربة الانتقال الديمقراطي الى شواطئ الامان لا يكون الا بالاستعداد لتقديم التنازلات،وتجرع السم من اجل الوطن،الذي يواجه مخاض عسير في الانتقال الديمقراطي لحزمة من الاسباب من بينها الدولة العميقة التي تحاول إجهاض اي انتقال من الاستبداد الي الديمقراطية،فالثورة لم تحقق حتى الآن هدفها الأساسي، وهو الإطاحة بالنظام القديم بشخوصه، ورموزه ومؤسساته وأدواته، ولا نعرف في الخبرات المشابهة ثورة قامت كي تعود إلى ما كانت عليه من قبل، وإلا فقدت اسمها،وصفتها فالثورة تنطوي على معنيين أساسيين هما: التغيير وإعادة البناء فلا التغيير وقع، ولا مرحلة إعادة البناء قد بدأت، نحن نعلم ان الثورة تتعرض لضغوط خارجية من أجل إجهاضها، والالتفاف عليها، ويكفي الثوار أنهم نالوا احترام الجميع داخلياً وخارجياً، وأعادوا بثورتهم بلادنا إلى قلب المشهد العالمي ،وحتي ينجز الثوار مهمتهم  ويحموا ثورتهم خلال المرحلة المقبلة لابد من الاعتراف بأن الثورات لا تعترف بمنطق التجزئة، فالتاريخ لا يعترف بأنصاف الثورات، فإما ثورة أو لا شيء،لذلك يجب أن يدرك الثوار أن الشرعية الآن هي للمجتمع ،فإحدى ثمار هذه الثورة أنها أعادت تصحيح الخلل الرهيب في العلاقة بين الدولة، والمجتمع بحيث بات هذا الأخير هو المحدد لشكل العلاقة وهو الذي يجب أن يضع قواعد اللعبة، ويحدد سقفها وشروطها، وعلى الجميع الالتزام بها ، لذلك يجب أن يفطن الثوّار إلى أن مؤسسات وشخوص وأدوات النظام البائد لا تزال حاضرة، وفاعلة، وتستعد لمرحلة جديدة من الصراع من أجل إجهاض الثورة،والدليل هنا فك حظر وتجميد التنظيمات النقابية من قبل المجلس العسكري ،معلوم ان النظام البائد كان قد أطاح منذ انقلابه المشوؤم علي الديمقراطية بكل القيادات والكوادر النقابية وفرض مكانها عبر سياسات احلال قياداته وكوادره،فالطفيلية التي نمت وترعرعت على سياسات الاستبداد والفساد طيلة ثلاثة عقود، وهي تسعى الآن لحماية امتيازاتها وبقائها بشراسة، وتضم هذه الطبقة فئات عديدة من سياسيين ورجال أعمال وأحزاب وصحافيين وإعلاميين ورؤساء جامعات ومديرين عامين ورجالات الادارة الاهلية ورياضيين جميعهم مستفيدون من النظام البائد، لذلك يدافعون عن بقائهم ومصالحههم ،ولن يتورعوا عن استخدام كافة الوسائل لتحقيق ذلك، وعلي الثوار ان يتذكروا دوما أن ما يجمعهم، ويوحّدهم ليس فقط مظالمهم السياسية والاجتماعية من النظام البائد فحسب، وإنما أيضاً مستقبلهم، ومستقبل أبنائهم، وحلمهم بتأسيس دولة ديموقراطية عصرية تقوم على أسس الحرية والعدالة والمواطنة، وهو هدف كافٍ لشحن العزائم، وتجديد الهمم كلما ارتخت، ويجب ألاّ يغيب عنهم أنهم لا يصارعون القمع، والاستبداد، والفساد فحسب، وإنما يناضلون ضد منظومة من القيم المعيبة التي توطّنت في المجتمع، وأفقدته هويته وخصوصيته خلال ثلاثة عقود، هنالك عمل اخر مطلوب من القوى النابضة متمثلة في المجتمع المدني السوداني والمنظمات والجمعيات والمراكز الحقوقية والثقافية من أجل حماية الثورة واحتضانها، فنجاح الثورة السودانية ستغيير واقعنا الداخلي ومحيطنا الاقليمي والعالمي(يتبع)