الخرطوم:حسين سعد

تناقش هذه الحلقة تجارب الانتقال السابقة من حيث فترتها الزمنية ؟وتحدياتها؟وقضاياها؟وكيف تم تجاوزها ؟وماهي انتكاساتها ؟وفشلها؟ ولماذا تمسكت الحرية والتغيير بفترة أطول حددتها بأربع سنوات ؟ثم قبلت بفترة ثلاث سنوات؟ وفي نقاشات مع الاستاذ محجوب محمد صالح رئيس بشأن الانتقال والتجارب السابقة قال لي ان فترة الانتقال الاولي أعقبت الحكم الثنائي المصري في مارس 1953م ،والتي حددت فترتها الانتقالية بثلاثة سنوات وكان مطلوب منها تحقيق الاتي:سودنة الوظائف الحكومية العليا وتنظيم جلاء الجيوش الاجنبية

،وخلال عامان تم إستكمال الواجبات ،في ذات الوقت شهدت تلك الفترة إنفجارات أمنية كبيرة ممثلة في أحداث مارس 1954م وأحداث حامية توريت في أغسطس 1955م ،وتعتبر تلك الفترة من أنجح الفترات الانتقالية بالرغم من انها واجهت أزمات أمنية حيث تم تجاوز تلك التحديات، ويعود السبب في ذلك الي ان عمر الفترة الانتقالية كان مناسبا والاهداف محددة  بجانب التعاون الكبير بين الاطراف والذي بفضله تحققت الاهداف والمطلوبات.

ثورة أكتوبر:

قال صالح ان فترة الانتقال الثانية كانت عقب ثورة أكتوبر 1964م التي أطاحت بنظام عبود ،ومن عيوب هذه الفترة ان عمرها كان قصيرا جدا (ستة أشهر) فقط حيث تكونت الحكومة في نهاية أكتوبر 1964م بينما جرت الانتخابات في أبريل من ذات العام ،ومن سلبيات هذه الفترة بجانب قصر عمرها هو عدم تعاون الاطراف التي تدير الفترة الانتقالية وهنا نقصد جبهة الهيئات التي قادت الانتفاضة والاحزاب السياسية التي كان دورها ضعيف حيث كان ميزان القوي لصالح المهنيين هذه الوضعية خلقت تناقض بين الحداثة والتقليدية لذلك شهدت الفترة الانتقالية مصادمات واسعة تجلت في حل  الحكومة واعادة تشكيلها مرة أخري ونلاحظ ان المهنيين كان لهم في الحكومة الاولي ثمانية وزارات من ضمن ضمن 15 وزارة،ونال كل حزب من الاحزاب الخمسة علي وزارة واحدة فقط، والاحزاب الجنوبية وزارتان ،وفي الحكومة الثانية نال المهنيين وزارة واحدة فقط.أما فترة الانتقال الثالثة فقد كانت عقب ثورة مارس أبريل التي أطاحت بنظام نميري كان عبد الرحمن سوارالذهب رافضا للاطاحة بالنظام بحجة القسم العسكري،ومن عيوب هذه الفترة هو قصر عمرها البالغ عام واحد،كما انها واجهت حرب الجنوب، ولم تفلح في التواصل مع قيادة الحركة الشعبية وإاحاقها بركب السلام وتأييد الثورة، ومن الملاحظة الثانية والمهمة هي الجبهة الاسلامية استمالت سوار الذهب الي صفها وهذه الوضعية تفسرها تعيين سوار الذهب رئيسا لمنظمة الدعوة الاسلامية، اما الفترة الانتقالية الرابعة، والحالية انها جاءت بعد ثورة واحتجاجات طويلة صمدت نحو خمسة أشهر سقط خلالها المئات من الشهداء، واصابات المئات بجراح مختلفة بعضها قاتلة بجانب اعتقال الالاف من الناشطيين والسياسيين والصحفيين والمهنيين ،ومن تحديات هذه الفترة انها اعقبت نظام عمره 30 عاما له فترة طويلة في الحكم ودولة عميقة وموازية تسببت في اشعال الكثير من الفتن والحروب بكل من جنوب كردفان والنيل الازرق ودارفور واشعال الخلافات في مناطق السدود وتدمير الاقتصاد السوداني والمشاريع الزراعية،فضلا عن تركها لميراث كبير من الخراب والدمار طال كل شي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية،وتمدد الفساد وخطاب الكراهية الذي خلق مرارات واسعة تحتاج الي تضميد الجراح، وعقد مصالحة وطنية تحتاج الي عدالة انتقالية لذلك كان من الانسب الاتفاق علي فترة انتقالية مدتها علي الاقل اربع سنوات لمعالجة هذه التركة الكبيرة من الخراب التي احدثها النظام البائد.

الوحدة في التنوع:

وفي دراسة له بعنوان :تجربة الإنتقال الديمقراطي في العالم العربي (الحالة السودانية مثالا) كتب مهدي إسماعيل مهدي عُثمان: ان نظام عبود نسج (1958-1964) على منوال النُظُم العسكرية الرائج سوقها آنذاك، فرفع شعارات التنمية لجذب الجماهير التواقة للتطور والعدالة الإجتماعية بعد أن تحقق لها التحرر السياسي (الإستقلال) ولكن وبعد ستة سنوات من الحُكم العسكري، وكبت الحُريات، تأكد للشعب أنه فقد حُريته ولم يحصل على التنمية الموعودة، وبلغت الأزمة السياسية ذروتها في النصف الثاني من عام 1964م من المُلاحظ إتسام تاريخ السودان الثقافي والإجتماعي بثُنائيات عرقية ودينية وثقافية ولغوية، بينما أتسم تاريخه السياسي بثُنائية عبثية بين حكومات عسكرية (يتطاول أمدها من حُكم عسكري لآخر) وحكومات مدنية قصيرة العُمر، وقد ظلت هذه الثُنائيات تُشكل أرضاً خصبةً للإستقطاب المُفضي للتمزق والتدمير والإنشطار، مع أن ذات هذه الثُنائيات قد تكون مصدر ثراء إذا اُحسن إستغلالها، ولكن يبدو أن هذا الأمل النبيل (الوحدة مع التنوع) سوف يظل عسير المنال حتى إشعار آخر، إذ يقف إنفصال جنوب السودان والثورات المُشتعلة حالياً في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، دليلاً دامغاً على فشل السودانيين في التعايش السلمي والتراضي على دولة ترتكز على المواطنة والعدالة والمساواة، هذا، وتُعد إنتفاضة 21 أكتوبر 1964، أول هبَة شعبية سلمية في العالمين العربي والإفريقي تُطيح  بنظام حُكم عسكري ديكتاتوري، وتفلح في إقامة نظام برلماني ديمقراطي ليحل محله.
يُقدم الأستاذ الجامعي والباحث الأكاديمي د. جعفر كرار أحمد، في الباب الثاني (الفصل الثاني) من كتابه (الربيع العربي، عود إلى بدء- التجربة السودانية)، تلخيصاً لمشهد إنتفاضة أكتوبر السودانية المجيدة، فيقول (وهكذا وبدخول العُمال والمُزارعين رسمياً وعملياً في حركة الإضراب السياسي العام في يوم 26 أكتوبر 1964، شُلت جميع أجهزة الدولة، وكان القُضاة والمحامون وأساتذة جامعة الخرطوم والأطباء والمدرسون والطُلاب قد بدأوا منذ 24/10/1964 في تنفيذ الإضراب)؛ ثُم يسترسل (وملأت مواكب الغضب السودان مرة أُخرى، واتسعت حركة العصيان المدني وأخيراً استجابت الحكومة العسكرية وشكلت حكومة أكتوبر الإنتقالية الأولى التي ضمت مُمثلاً لكُل من؛ حزب الأُمة والحزب الوطني الإتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وجبهة الميثاق الإسلامي والحزب الشيوعي، كما ضمت سبعة وزراء يمثلون النقابات والمنظمات المهنية ووزيرين من جنوب السودان، واهتدت الحكومة الإنتقالية بميثاق من سبعة بنود وافقت عليه القوى السياسية، ويقوم هذا الميثاق على؛ تصفية الحُكم العسكري وإطلاق الحُريات العامة ورفع حالة الطوارئ وإلغاء جميع القوانين المُقيدة للحُريات وتأمين إستقلال القضاء وإستقلال الجامعة وإطلاق سراح كافة المُعتقلين والمسجونين في قضايا سياسية، وأن تلتزم الحكومة الإنتقالية بإنتهاج سياسة خارجية مُعادية للإستعمار) 
أسباب إجهاض ثورة 21 أكتوبر 1964
أدى نجاح إنتفاضة 21 أكتوبر 1964، إلى تشكيل حكومة قومية إنتقالية لمُدة عام برئاسة السيد/ سر الختم الخليفة، وقامت حكومة سرالختم بإجراء إنتخابات لإختيار جمعية تأسيسية أُنيط بها وضع دستور دائم للبلاد- إذ كانت الحكومات التي تلت الإستقلال تعمل بدستور 1956 المُعدل عام 1964- ولعله لا تفوت على فطنة القارئ والمُراقب لأحداث الربيع العربي، أن الثورات العربية تقتفي أثر إنتفاضة أكتوبر السودانية- التي تفجرت قبل خمسة عقود ،ظل الحزبان الكبيران (الأُمة والإتحادي) في تشاكُس دائم رغم إئتلافهما أكثر من مرة بعد نجاح إنتفاضة أكتوبر، وفي لحظة فارقة في تاريخ السودان رضخ الحزبان لضغوط ومؤامرات جبهة الميثاق الإسلامي فأعلنا حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المُنتخبين من البرلمان (11 نائباً من دوائر الخريجين الخمسة عشرة، والتي تُمثل الصفوة المُتعلمة)، ونتيجة للتخبط السياسي والفشل الإقتصادي، أعلن العقيد/ جعفر نميري إنقلابه، يُمكن إيجاز أسباب فشل إنتفاضة أكتوبر 1964، وعجزها عن إحداث تحول ديمقراطي حقيقي، في العوامل التالية:
(1)إفتقاد الأحزاب التقليدية الكبيرة التي تولت زمام الحُكم بعد الهبة الشعبية، للمُمارسة الديمقراطية في داخلها، وفاقد الشئ لا يُعطيه (يُرجى مُلاحظة تسليم حزب الأُمة بزعامة رئيس الوزراء ووزير الدفاع/ عبد الله خليل، الحُكم للفريق عبود في عملية تسليم وتسلم لمجرد إحتمال سحب الثقة من حكومته، ومُشاركة عناصر الحزبين الكبيرين في كافة الحكومات الشمولية)
(2)عدم قناعة الأحزاب العقائدية الصغيرة بالديمقراطية الليبرالية، وتلهفها لإستلام السُلطة بأقصر السبُل (وقد فعلت ذلك؛ حين أنقلب اليساريون على الديمُقراطية الثانية في مايو 1969، بينما انقلب الإسلاميون على الديمقراطية الثالثة في يونيو 1989) 
(3)غياب أي رؤية تنموية للأحزاب التي تولت الحُكم بعد ثورة أكتوبر، إذ لم يكُن لها برنامج واضح للتغيير والتنمية، فأضحى البقاء في الحُكم هو غاية مُرادها ولم تعرف البلاد خُططاً إقتصادية واضحة المعالم أو منهجاً مُحدداً للتنمية، وقد اعتمدت الحكومات الحزبية على التجريب الذي يُصيب حيناً ويخيب في غالب الأحيان، وفي هذا تتشابه جميع الأنظمة التي تعاقبت على حُكم السودان، عسكرية أم مدنية– ورُبما لهذا السبب دون غيره لا تزال البلاد تدور في حلقة مُفرغة.
(4)بالرغم من تفجُر إنتفاضة أكتوبر 1964، في مناخ إقليمي تحررُي، حيث كانت حركات التحرر الوطني في إفريقيا تشتعل وتُحرز إنتصارات مُتلاحقة، إلا أن هذه الفترة تأثرت سلباً بشيوع ظاهرة الإنقلابات العسكرية في الدول التي نالت إٍستقلالها حديثاً، ولعل حكومة ما بعد أكتوبر 1964 بالسودان كانت هي الحكومة الديمقراطية الوحيدة في العالمين العربي والإفريقي.  
(5)من الأسباب المُباشرة التي قادت لإنقلاب 25 مايو 1969، حل الحزب الشيوعي، ولقد كان قرار حل الحزب الشيوعي عام 1967، تجسيداً عملياً لعدم إيمان الأحزاب التقليدية بالديمقراطية، كما كان رفضها لقرار المحكمة الدستورية العُليا (القاضي بعدم دستورية حل الحزب الشيوعي) تأكيداً عملياً على عدم ديمقراطيتها، كما أكد أيضاً على إستهانتها بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية، ألا وهي؛ الفصل بين السُلطات، واستقلال القضاء واحترام قراراته.
قيام إنتفاضة أبريل 1985
بلغ نظام جعفر نميري درجة من التخبط والفساد لم تنفع معها محاولات اللواذ بالشعارات الدينية وإعلان قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983 وقد بلغت غلواء الهوس الديني ذروتها بإغتيال الشيخ الثمانيني (الذي يجادل بالتي هي أحسن) الأستاذ/ محمود محمد طه (مؤسس وواضع لبنات الفكر الجمهوري). وعندما اشتد الكبت والإستبداد تداعت النقابات العُمالية – وليس الأحزاب السياسية التي أمسى جُل قادتها من أركان نظام النميري- وتصدت للنظام المحمي بجهاز أمن باطش وتحالفات دولية وإقليمية لم تنفع النظام شيئاً عندما أزفت الآزفة، فعمَت المسيرات الإحتجاجية البلاد من أقصاها إلى أدناها وأُعلن العصيان المدني، وانحاز صغار الضُباط وضُباط الصف والجنود إلى جانب الشعب، فسارع كبار قادة القوات المُسلحة بقيادة وزير دفاع النميري، المشير/ عبد الرحمن سوار الدهب، إلى إستلام السُلطة وإعلان المجلس العسكري حاكماً إنتقالياً للبلاد، مما حدا بقائد الحركة الشعبية د. جون قرنق، إلى وصف الحُكم الجديد بــ مايو الثانية!! (وأثبتت الأحداث لاحقاً، أنه زرقاء يمامة السودان!!) 
أسباب إجهاض إنتفاضة أبريل 1985
ومضي مهدي بقوله :لقد كانت إنتفاضة الجماهير في مارس/أبريل فعلاً ثورياً حقيقياً، ولكن من الخطل وصفها بالثورة، إذ أنها ومع تمكنها من إسقاط نظام الحُكم القائم إلا أنها فشلت في تحقيق أي تغيير حقيقي في بُنية الحُكم وتوجهاته، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه بذات السياسات مع تغيير الشخوص والأوجه لاغير، فالثورة عملية تغيير طويلة الأمد تحتاج إلى نفَس طويل ورؤية واضحة وخارطة طريق لإنجاز عملية التحول الديمقراطي الحقيقي والتنمية العادلة المُستدامة (كما أسلفنا) لقد ذكرنا في صدر هذا المبحث خمسة أسباب أدت لفشل إنتفاضة أكتوبر 1964، وهي ذات الأسباب التي أدت لإجهاض إنتفاضة أبريل 1985، ونضيف إليها:- 
(1)عدم مُشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان- التي حملت السلاح ضد حُكم النميري- في النظام البرلماني الذي انبثق عن إنتفاضة أبريل. وبغض النظر عن مدى صوابية أو خطل موقفها، فإن عدم المُشاركة قاد إلى إضعاف النظام البرلماني وسهل عملية إنقضاض الإسلاميين عليه، إذ يرى بعض المُحللين أن إنقلاب يونيو 1989 (بقيادة العميد/ عُمر البشير)، ما كان ليتم بالسهولة التي تم بها لو أن جيش الحركة الشعبية كان مُستوعباً في الجيش القومي.
(2)ويُضاف إلى ما تقدم؛ ضعف القوى الحديثة بعد الضربة الهائلة التي وجهها نظام/ جعفر نميري، للقوى الحديثة مُمثلةً في النقابات العُمالية والحزب الشيوعي، الذي نال النصيب الأكبر من التصفية الجسدية والمُلاحقة والحظر، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل إمتد القمع والإرهاب ليشمل كافة القوى الديمقراطية والليبرالية بعد إعلان قوانين الشريعة الإسلامية (1983)
أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة:

 يقول بروفيسور/ عطا الحسن البطحاني، في كتابه (أزمة الحُكم في السودان- أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة؟!)؛ الفصل التاسع بعنوان “الفترات الإنتقالية في السودان: إلى أين؟ 
شهد السودان العديد من فترات الحُكم الإنتقالية، ففي الفترة الإنتقالية الأولى (1953-1956) إنتقلت السُلطة من الإستعمار الثُنائي إلى حكومة وطنية أعلنت إستقلال البلاد، وفي الفترة الإنتقالية الثانية (1964-1969) تمكن تحالف سياسي/نقابي من إسقاط النظام العسكري الأول (1958-1964) وإقامة نظام برلماني (1964-1969) ما لبث أعواماً قليلة حتى تمت إزاحته بواسطة النظام العسكري الثاني الذي حكم لمُدة ستة عشر عاماً (1969-1985)، وجاء الإنتقال الديمقراطي الثالث عام 1985 ليُعيد التحالف السياسي/النقابي العريض التجربة السابقة ويتمكن عبر إنتفاضة شعبية من إسقاط النظام المايوي، ولم تُكمل الحكومة البرلمانية المُنتخبة دورتها حتى أجهز عليها إنقلاب عسكري في 30/يونيو/1989 من تدبير حزب الجبهة القومية الإسلامية التي حكمت تحت مُسمى نظام الإنقاذ، ثُم يسترسل البروفيسور/ البطحاني فيقول إن الطبيعة البنيوية للأزمة السياسية في السودان وتأرجح ميزان القوى المُصاحب للفترات الإنتقالية، ساهمت مع عوامل أُخرى، في فشل فترات الإنتقال وعجز الحكومات الديمقراطية عن تحقيق المهام المطروحة والمنوط بأنظمة الإنتقال تحقيقها (وحدة الوطن، الدولة المدنية العصرية، التنمية الإقتصادية) فتؤجل المهام لفترات قادمة. وتزداد مهام الإنتقال صعوبةً بقيام الأنظمة العسكرية بتصفية القوى الوطنية والديمقراطية في كُل مرة تعتلي فيها كراسي السُلطة، حيث يبز كُل نظام عسكري في هذا المجال من سبقوه، فيتآكل الرصيد التراكُمي لــ (الديمقراطية والثقافة المدنية) وبالتالي تتعاظم المهام وتقصر القامة، وكأننا نتقدم إلى الخلف، فقد قفزت مهام مرحلة الإنتقال الأولى (1953-1956) لتتصدر مهام مرحلة الإنتقال الحالية (وحدة الوطن، الدولة المدنية العصرية، التنمية الإقتصادية)  
طريق المُستقبل وكيفية تعزيز عملية الإنتقال الديمقراطي

نجحت إنتفاضات الربيع العربي في إنجاز الجُزء الأسهل من عملية التغيير، إذ تمكنت من إسقاط الأنظمة الإستبدادية الحاكمة (كما فعلت إنتفاضتا السودان) ولكي تستحق صفة الثورة، عليها إنجاز الجُزء الأصعب من عملية التغيير، ولن يحدث ذلك إلا بالتقيد الصارم بالمبادئ والأُسس التالية: 
(1)سيادة حُكم القانون والنظام والمساواة التامة بين المواطنين وإعتماد مبدأ المواطنة المتساوية وإنزال مقولة “مواطنون لا رعايا” إلى أرض الواقع
(2)الفصل التام بين السُلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإحترام المؤسسية، وخاصة القضاء (العدل أُس الحُكم) – كما فعلت جنوب إفريقيا.
بما أن التنمية البشرية وتلبية إحتياجات المواطنين المادية وإشباع إحتياجاتهم الروحية، وإحترام كرامتهم الإنسانية، هي مناط ومُبتغى أي رؤية أو فكر أو عقيدة دينية أو غير دينية، وبما أنه إتضح أنه لا يُمكن تحقيق هذه الأهداف النبيلة إلا في بيئة آمنة ومُجتمع مُستقر تتساوى فيه الحقوق والواجبات، فلا بُد من تحقيق العدالة بإعتبارها شرطاً لازما ومُسبقاً للسلام والإستقرار، وفي هذا لا داعي لإعادة إكتشاف العجلة، فتجربة جنوب إفريقيا (والمغرب) في العدالة الإنتقالية تقف نموذجاً ساطعاً إستطاع تضميد الجراحات التي أحدثها أسوأ نظام حُكم عرفته البشرية في تاريخها الطويل (نظام التمييز العُنصري). هذا مع العلم أن العدالة الإنتقالية لا تعني أبداً عفا الله عن ما سلف ،نشر وتعميق ثقافة الديمقراطية عبر تعزيز نشاطات منظمات المُجتمع المدني وتفعيل دورها، ودعم (وعدم تعويق) النشاط السياسي والفكري في الجامعات، والمعاهد العُليا والمدارس الثانوية، وتضمين مواثيق حقوق الإنسان والديمقراطية والحوكمة الرشيدة وحماية البيئة والمساواة بين الجنسين في مناهج التربية الوطنية، بإعتبار ذلك من أكثر الوسائل والآليات فعالية في بث الوعي والإستنارة والثقافة الديمقراطية.
سودان جديد

   أما عن إنجاز وإستدامة التحول الديمقراطي في السودان فيوجز د. منصور خالد؛ في كتابه؛ النُخبة السودانية وإدمان الفشل – الجُزء الثاني خارطة طريق للخروج من النفق المُظلم الذي ظل يقبع فيه السودان منذ الإستقلال وحتى الآن؛ إذ يقول:
(السودان قُطر فُسيفسائي- تتنوع أصول أهله وأعراقهم ودياناتهم ولُغاهُم- وهذا السودان القديم هو الأساس المتين لبناء السودان الجديد، على أن هذا البناء لا يتم إلا بتواصل الحوار بين كُل أقوام السودان دون أي إمتياز أو تمييز، كما أن هذا الحوار لا يتأتى إلا في جو من الديمقراطية السخية القائمة على نفي كل ضروب الإرهاب الفكري بإسم الدين أو أي مُعتقد وضعي، وإشاعة الديمقراطية في مؤسسات المُجتمع المدني – لأن المؤسسات التي تفتقد الديمقراطية الداخلية لا تقوى على الدفاع عنها، وأخيراً الإنضباط الذاتي “أي المصداقية”- بمعنى تحكيم المسئولية في كُل الممارسات السياسية والنقابية.(يتبع)