الهادي راضي
توطئة:
روى بن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي عن محمد بن كثير، سمعت الأوزاعي يقول: خرجت إلى الصحراء فإذا أنا برجل من جراد في السماء فإذا برجل راكب على جرادة منها وهو شاك في الحديد وكلما مال بيده هكذا مال الجراد مع يده وهو يقول الدنيا باطل باطل ما فيها، الدنيا باطل باطل ما فيها. (تفسير بن كثير).
“بعد سبعة أيام خرج موسى عليه السلام إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها.”
(عندما يلوِّح الدّمْبَاري بعصاه، تتبعه أسراب الجراد حيثما سار).
***
جاء في تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) أن الجراد الصحراوي (Schistocerca gregarita) يعتبر من أكثر الآفات المهاجرة تدميراً في العالم. وظلت ترصد ملايين الدولارات سنوياً لمكافحته.
ولكن ثمة تقنية غيبية لمكافحة الجراد ربما لم تخطر على بال أحد من منظري وعلماء وموظفي منظمة الفاو؛ حيث ذكر عوض بابكر محمد عبد الله في بحثه المعنون ب(استراتيجيات تكيف زراعة المحاصيل بولاية شمال دارفور)، مبحث إستراتيجيات التكيف مع الحشرات والطيور:
“أما إستراتجيات التكيـف معه – الجراد- فتتمثل في الرش والدمْباري.“
الدَّمْبَارِي.. من هو؟
أشار الباحث بحر الدين عوض شقف في دراسته الموسومة ب( من خصوصيات البيئة وأبعادها الثقافية في دار فور)، أن الدمباري وُصِف في الدراسات السودانية التي كتبها الانجليز، بطارد الجراد Locust banisher of Dar Fur. وذكر أن الدمباري هو شخص اكتسب فقهاً في أدب الجراد الآكل للزروع والثمار وحتى الحبوب الخلوية منها، فقد خص على الإلمام بخواص الجراد، حيث أوتي القوة على اقتياده وتحريكه من موقع لموقع وعلى تصريفه حيث يشاء.”
ويقول شقف: “عندما يحل الجراد بالبلاد، يستدعي رأس القبيلة أحد الدمبارة لطرده، فيقوم الدمباري بحرمان الجراد من الطيران وحبسه وتركه جاثماً على الأرض، دون طعام أو شراب، أي كأنه يكتب الصوم على الجراد على سبيل التربية والتأديب وتوقيع العقاب.
ويبقى الجراد على الأرض فلا يستطيع الحركة أو تناول الطعام لأيام، ثم يقرر إرساله- بعد العقاب- إلى الجهة التي يريد، عامداً على إثارته وتهيجه، وعندما يرفع العصا – وغالباً ما يكون غصناً من العرديب- عالياً تهب أسراب الجراد فتطير إلى أعلى ثم يتحرك إلى الناحية التي يريد صرفها شاهراً للعصا، ملوحا بها فتتبعه الأسراب حيثما سار إلى أن يخرج من حدود القبيلة، فيسلمها إلى دمباري المنطقة الأخرى، فيتحرك الدمباري الآخر إلى آخر إلى أن يتم إجلاء الآفة إلى قمم الجبال وسفوح التلال، أو بعيداً إلى أرض مهجورة.
وفي ذات السياق يحكي الشاعر عالم عباس عن (غزوة) جراد في أحد المواسم بشمال دارفور فيقول: “أسراب الجراد، أياً كان نوعه، شاو أو ساري الليل، أم جُرْكـُم أو أم سميندو، تأتي غالباً، مع بدايات الدَّرَت حين “تلبِّن” السنابل، تماماً كما في المثل (بعد ما لبّنت جاها الطير)! حينئذٍ، يأخذ الناس هَمٌّ عظيم لمكافحتها وأذكر بعض مواسم هذا الغزو، وقد غطت أفق الفاشر غمامة سوداء صارت تقترب شيئاً فشيئاً، ثم بدأت بعض طلائع الجراد تتساقط محدثة أصوات كسقوط البَرَد، ثم أظلم الجو، وصارت السماء ملاءة سوداء تضطرب في هسيس، وما لبث أن حط بعضها على الشجر، فإذا به يعرى، وأوراقه تختفي، وتصبح سيقانه جرداء وبعض أشواك، والجراد ملتصق بأغصانه العارية، يأكل في شراهة مخيفة، وإذا البقايا مما أكلت متكدسة تحت الجذوع، وإذا الناس في هلع عظيم. ثم ما لبثت طائرات المكافحة الحمراء الصغيرة أن هدرت ترش السُّم! ساعة من زمان، ثم رويداً رويداً انقشعت تلكم الغمامة، والناس يحوقلون ويسبحون! أما حال المزارع حول المدينة فقد كان يغني عن السؤال: الجراد مر من هنا! في تلك الأطراف، وفي مكان منعزل، كان يقوم كوخ يبدو مهجوراً، عليه سيماء القذارة والإهمال، لا يقربه الناس، ويحذرون أطفالهم من الاقتراب منه، لذا كان خيال الطفولة ينسج حوله حكايات الرعب! وما أن تظهر طلائع الجراد، حتى يبدأ الناس يتهامسون: أين الدَّمْبَاري؟! وكان ثمة دائماً من يعرفون أين يجدونه! هو شخص زري الهيئة، نحيف الجسم، أقرب إلى الطول منه إلى القصر، مع انحناءة قليلة إلى الأمام، رث الثياب، تفوح منه نتانة ظاهرة، وعلى صدره وعنقه قلائد غريبة من عظام ولفائف وأشياء متنافرة وقذرة، وعلى رأسه إما قلنسوة عالية أو عصابة غريبة! كان أهل القرية يجمعون بعض النقود والأشياء العينية كأتاوة يعطونها لهذا الدَّمْبَاري كي يسوق الجراد بعيداً عن مزارعهم! وكان الدَّمْبَاري، متى تسلم هذه الجعالة، عاد إلى كوخه، وغاب فيه ما شاء الله له أن يغيب، ثم خرج حاملاً عصاه، تلك الطويلة المرصعة بقطع من القماش المهترئ وبعض الخرز والتمائم والسيور، وقام بأداء بعض الطقوس، ثم، ويا للغرابة، ما أن يتجمع الجراد في الأفق حتى يرفع عصاه، فإذا بأسراب الجراد تطير! ثم ينزل عصاه فتهبط الأسراب، ثم يلوِّح بعصاه شرقاً فيتجه الجراد نحو الشرق، أو غرباً فيتجه نحو الغرب، حتى إذا استعرض سيطرته عليه رفع عصاه وسار، والجراد غمامة من فوقه تتبعه، فيسوقه من مزارع القرية حتى يلاقي دَمْبَاريَّاً آخر يتسلمه منه ليتجه به إلى حيث يريد!”
انتقام دمباري:
يؤدي الدمباري هذه المهمة مقابل مبلغ من المال أو هبة عينية، ولكن ماذا يحدث إذا لم يلتزم الأهالي بدفع المقابل؟
“يقول عالم عباس: هذا الدَّمْبَاري لا يظهر إلا في مواسم الجراد، أما في غيرها فلن تجد له أثراً! يتنقل من قرية إلى قرية دون أن يُعرف له أصل أو فصل، أو من أين جاء، أو إلى أين يذهب. ليس له أهل ولا ولد، ويظهر، حين يظهر، فقط لأداء هذا الدور! لكن هل يحترمه الناس؟ لا، بل يحتقرونه، وهو يعرف ذلك، كما يعرف أيضاً أن الناس لا يستطيعون الاستغناء عنه، وإن أغضبوه أو امتنعوا عن تلبية طلباته، وهي تافهة في الغالب، فالويل لهم من غضبته، إذ سيسوق الجراد إلى مزارعهم فيصيبهم بالخسران المبين!”
شاهد عيان:
ويحكي شاهد عيان أنهم كانوا يؤدون صلاة الجمعة بمنطقة كورما بشمال دارفور، فاستمعوا لخطبة الإمام الذي كان يدعو الله أن يبعد عنهم الجراد. وبعد الصلاة قام أحد المصلين مخاطباً الحضور قائلا: “الدمباري جايب الجراد، لأنو طلب خمسة (5) جنيه وناس السوق رفضو يدوه”
فرد عليه إمام المسجد: هذا دجل وشعوذة.
قال الرجل: وقبل خروج المصلين من المسجد، وصل الجراد إلى سوق كورما بشكل عمودي، ثم هبط بقوة، كان لا يفرق بين حمار وإنسان وشجرة، أو بين جِمال وطيور. أصحاب الدكاكين حاولوا قفل دكاكينهم، لكن الجراد وجد ضالته فقام بأكل الأقمشة وكل شيء.
كان منظراً مضحكاً للغاية وأنت ترى هروب الجمال والحمير وهروب الكلاب.
في نهاية الأمر دفعوا مبلغ الخمسة جنيهات للدمباري فغادر الجراد إلى الاتجاه الشمالي من المدينة بعد أن استلمه استلمه الدمباري ليسلمه إلى دمباري آخر.
ما بين الحقيقة والأسطورة:
قرّ في أذهان الأهالي أن الدمباري ليس سوى ساحر ومشعوذ، بما له من مقدرة على تصريف الجراد وفق ما يريد، ولكن للباحث شقف رأي آخر، إذ يقول:
“إن الدمباري، بهذا، ليس ساحراً أو كاهناً ولا رب حيل، ولكن يبدو أن هناك سراً بحكم العلاقة بين الإنسان والحيوان، تكون الصلات عادية في بعض المرات، ومرات ينكشف السر، أو يرفع، فتنقلب العلاقة العادية إلى علاقة غيبية أو مجهولة الكنه والحقيقة.”
وقد سمى الباحث هذه العلاقة ب “الفكرة الغيبية” وقال إن الأديان السماوية تُقرها.
مرجعية الدَّمْبَرَة:
ويواصل شقف: “ولعلنا نلتمس بعض المرجعية لهذه العلوم أو لهذه الأفكار والأسرار في القرآن الكريم، إذ يرجع القرآن الفكرة الغيبية أو العلوم التأديبية إلى أصولها الحسية أو المادية المعروفة بالتجربة العلمية scientific science . قال تعالى (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله إن الله سريع الحساب.) المائدة4. يؤكد القرآن الكريم علمية الفكرة الغيبية ثلاث مرات في آية واحدة، حيث تكرر لفظ العلم مرات ثلاث، بمعنى أن الخطاب الإنساني للحيوان خطاب مؤسس على علم وليس سحر أو كهانة.
ويضيف الباحث “أن الخطاب بين الإنسان والحيوان غير عادي ومن الصعب قيام صلات من التفاهم بين الجنسين، فالعلاقة بينها غير عادية، لكنها ذات مرجعية دينية بالقياس على تجربة موسى عليه السلام مع آل فرعون. قال تعالى (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا فكانوا قوماً مجرمين) الأعراف 133. فعندما بعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء، حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل في بيوت بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى عليه السلام ووعدوه التوبة، فكشف عنهم بعد سبعة أيام خرج موسى عليه السلام إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها.”