بقلم: دكتور عباس التجاني

دائما ما يكون هناك خلط مفاهيمي بين مفردة (المصالحة) و(الوساطة) فالمصالحة تختلف عن الوساطة في سياق المحتوى لذا نجد بعض الأكاديميين يبررون الامر بأن الوساطة اشمل.
لانها اي (الوساطة) تصنف ضمن الحل البديل للنزاع وذلك عندما يستدعي طرفي النزاع في أمر ما وسيط، وهو بدوره يلتقي الطرفين بشكل منفصل ثم يجمعهما معا في محاولة لتقريب وجهات النـظر، وفي مسعى لتهدئة النفوس وفهم نقاط الاختلاف وتشجيع الطرفين لاكتشاف الحلول الممكنة للمساعدة في الوصول لنتائج مقبولة

بينما المصالحة هي عملية اجتماعية تعكس الجهود الجماعية لاحتواء النزاع، وقد يشارك فيها زعماء المجتمع، وغيرهم. وهي تعمل على التحول الإيجابي في العلاقات بين المجتمعات في مناطق النزاعات او التي شهدت نزاعات في مناطق متفرقة بالسودان.
في السودان حيث ان هناك إرث مجتمعي للمصالحة يسمي الجودية وهو عملية تساعد في فهم نقاط الاختلاف، بين اطراف النزاع في الماضي والحاضرة وغيره، لأن النزاع يؤثر على الهوية إن كانت عرقية او دينية أو ثقافية. لذلك المصالحة تتطلب منهج شامل يضع في الاعتبار الحاجات الانسانية من امال، مخاوف وتحفظات الأطراف في الاعتبار. كما ان المصالحة تطبق في النزاعات الاجتماعية والاسرية كالطلاق وغيره ،لذا يجب استدعاء أشخاص ذوي خبرة وحكمة.
وتعتبر الجودية في السودان من أبرز آليات فض النزاع على المستوى المحلي، والتي تساعد في تخفيف حدة النزاع في المراحل الأولية كما ساهمت هذه الآلية في الحد من النزاعات في فترات تاريخية مختلفة.
ففي الثلاث عقود الماضية برزت “مؤتمرات الصلح” وهي اقرب الى الجودية في تركيبتها، حيث “الاجاويد” أي الوسطاء، بجانب الحكومات المحلية ومنظمات المجتمع المدني في بعض الأحيان.
تاريخيا الإدارة الأهلية ” قبل تسيس البعض منها” كانت هي البديل الذي يتصدى للنزاعات المحلية والفراغ الأمني الذي خلفه النزاع السياسي المستمر في السودان، وغياب مؤسسات الدولة او عدم وجودها في بعض المناطق البعيدة من مركز السلطة.
وتعتبر الجُودية بجانب الأعراف المحلية التي طورتها المجتمعات بهدف التعايش السلمي، هي ابرز ادوات فض النزاع في مناطق مختلفة ونجد ان طبيعة النزاعات كانت ومازالت ذات طابع قبلي او مناطقي على حدود الزراعة والرعي او بسبب حالات قتل فردية معظمها ترتبط بالعادات الاجتماعية أو في حالات الزواج والطلاق.

بعد انقلاب ١٩٨٩ تم تسيس معظم تلك النزاعات، حيث تم استخدام بعض القبائل في نزاع جنوب السودان، بالإضافة إلى ذلك ابتداع المليشيات والدفاع الشعبي، و تم تدريب مجموعات سكانية كبيرة بغرض الاشتراك في “الجهاد” عندما فشل الحل العسكري للنزاع في الجنوب فهناك أعداد كبيرة تم تسريحها ولها قدرات عسكرية وقتالية، بجانب ان أوضاعهم النفسية غير المستقرة وعدم إكمال التعليم وفي بعض الحالات الأمية التي تطغى على مجموعات كبيرة من تلك الفئات.
في دارفور تم تصنيف القبائل ما بين مؤيدة للنظام و داعمة للكفاح المسلح، وعندما يحدث نزاع بين مجموعتين من ذلك التصنيف، ينتج عن ذلك النزاعات التي أخذت طابعا مسلحا “الانتشار المفرط للسلاح” وشرخا اجتماعيا، اضافة الى التهجير والنزوح الذي طال مجموعات سكانية كبيرة. بجانب احتقان وغبينة، حيث برز في بعض النزاعات استخدم اسلحة لا تمتلكها القوات النظامية،وفي هذا الشان يرجع البعض الامر للحدود المفتوحة وللنزاعات بدول الجوار، وسباق التسلح بين القبائل المتنازعة، لكن الأرجح كان نشوب النزاعات من ضمن استراتيجية النظام البائد (سياسة الأرض المحروقة).

ومنذ ١٩٨٩ اتخذت المصالحات طابع مؤتمرات الصلح عند بروز اي نزاع (تفرد ميزانيات ضخمة لذلك) حيث يتم تشكيل لجان من زعماء الادارة الاهلية بالمنطقة، وزعماء من خارج المنطقة الجغرافية التي حدث فيها النزاع تضم القيادات العسكرية والامنية وفي بعض النزاعات تم إشراك منظمات المجتمع المدني، “رجال الدين” وحتي المنظمات الاجنبية التي تعمل في مجال السلام.

تلك المؤتمرات وظفت الأدوات التقليدية لفض النزاع نحو “الجودية” و ” الصف” الذي يعني فصل المجموعتين المتنازعتين لكيلومترات حيث ان (الصف) هدفه الظاهر فض النزاع، لكن تطبيقه يعني إفراغ مساحات من الأراضي لاستخدامات اخرى مثل (البترول) ايضا تولدت نزاعات جديدة نتيجة “الصف” جراء الدخول في حدود اراضي قبيلة جديدة او الضغط على الخدمات الشحيحة في تلك المنطقة.

يهدد الحاكم في بداية المؤتمر بفرض هيبة الدولة الزائفة. وغالبا ما تأخذ نتائج تلك المؤتمرات طابع إدارة الأزمات اكثر من انها مصالحة حقيقية بين الأطراف المتنازعة، حيث تسعى لانهاء العنف، ووقف الاقتتال وإطلاق النار بين الأطراف وحصر القتلى والجرحى والتعهد بدفع “الديات” “والديات هي قصة تشيب لها الولدان “.

يفرغ المؤتمر بعد ان تمتلئ جيوب الوسطاء بالمال وتكون لجان من اطراف النزاع تلهث بين القصر و البرلمان ومجلس الوزراء والسماسرة بوزارة المالية، حتى تتمكن من الحصول على بعضا من المال الملطخ بدم الضحايا وفي معظم الأحيان يهرب المسؤول من الإبقاء بالتزامه في المؤتمر بقوله بأنه تبرعه كان سياسيا لوقف النزاع. انه الحل المؤقت بعينه وسرعان ما يتجدد القتال مرة أخرى.

بشكل عام فإن كثير من اتفاقيات مؤتمرات الصلح يتم اختراقها قبل أن ينفض المؤتمر، لان الحلول لم تكن جدية ولا جذرية، ولم يكن لها ضمانات لاستمرار السلم بين الأطراف المتنازعة. وهنا يمكن الاشارة الى عدد من الاتفاقيات تمت في مناطق دارفور، وكردفان وشرق السودان، حيث الاعلام يصور التوقيع النهائي ويتشدق الحاكم أمام الشاشات بالإنجاز. وفي معظم الأحيان تسند له مهام صلح اخرى. ولا تتابع الاجهزة الاعلامية والصحفيين تلك التصريحات والاتفاقيات فينتهي بمراسم التوقيع. وعليه معظم الاتفاقيات لم يتم تنفيذها، نتيجة لغياب مؤسسات الدولة والارادة السياسية وهو السبب الرئيسي في إخفاق الاتفاقيات التي استضافتها مدن مثل “الضعين، الفولة، الابيض، النهود، الجنينة وغيرها. يضاف إلى ذلك عدم الالتزام بجبر الضرر والمساءلة القانونية على الذين ثبت اشتراكهم في النزاع. اجمالا فشل الدولة في احتواء النزاعات القبلية.

بعد النجاح المبهر لثورة ديسمبر المجيدة برزت إلى السطح النزاعات القبيلة خلال النصف الأول من العام ٢٠٢٠. حيث شهدت بورتسودان، الجنينة، تلس، كسلا، نرتتي، كادقلي وغيرها نزاعات قبلية و هرع المسؤولين من مجلس السيادة والوزراء لاحتواء بعض من تلك النزاعات و تكونت لجان تحقيق، ووقع “القلد” العرف البجاوي الاصيل، لكن اعتقد انه لا يتطابق ثقافيا واجتماعيا مع أطراف النزاع، أي ليس من ضمن أعراف أحد أطراف النزاع، اعتقد ان اوفق في تلك الحالة تطبيق القانون بصرامة. كما تم توقيع اتفاق بالجنينة وتُلس التي تقع بجنوب دارفور.

هنا جملة من التحديات التي تواجه المصالحات والاتفاقيات التي توقع بين المجموعات المتنازعة، أولها الانتشار الكثيف للسلاح أضف الي ذلك هناك من يعمل على عرقلة تلك المصالحات، ثقافة ومنهجية المصالحات من العهد البائد وسط زعماء بعض الادارات الاهلية، عدم تشكيل الحكومات المدنية بالولايات، بالاضافة الى الاسباب التي دفعت حركات الكفاح المسلح للقتال، من غبن تنموي، عدم التوزيع العادل للسلطة والثروة.
لكن أهمها غياب مؤسسات الدولة المدنية (الحكام المدنيين) ودورها فيما يتعلق بالقرارات الامنية، وهو التحدي المهم الآخر في مشاريع المصالحات، لأن وجود الدولة ومؤسساتها هو ضمان للالتزامات بالاتفاقيات والمواثيق، كما أنها تسهم في تطبيق بنود الاتفاق وفقا للمصلحة الوطنية دون تحيزات قبلية او جهوية او مناطقية. أيضا تشجع على انتشار ثقافة السلام ومنها التسامح والتصالح، وتقديم الدعم المادي والمعنوي للمتضررين .
لضمان نجاح مجهودات المصالحات التي تقوم بها حكومة الفترة الانتقالية والأجسام المكونة لها، يجب التركيز على بناء الشعور الوطني، بناء الثقة بين المكونات وإبراز الرغبة الحقيقة في تحقيق السلام.
بجانب التركيز على اهمية تكملة مؤسسات الحكم المدني ، التي سوف يكون لها دور في التنفيذ الناجح لمبادرات المصالحة المختلفة بشكل عام، وخصوصا فيما يتعلق بإجراءت الإنصاف ، المحاسبة وتطبيق العدالة وفق آليات تمنع حدوث النزاع مستقبلا. كذلك تشجيع الحوار بين المكونات الاجتماعية الذي يسهم في تعزيز المصالحات والاتفاقيات، وذلك بتدريب العاملين على مستويات الحكم المحلي على كيفية ادارة الحوار دون تسييس ذلك الحوار. بالإضافة إلى نزع السلاح وتوظيف طاقات الشباب في خدمة الوطن. واهم جانب ان تمتلك الدولة مشروع خطة اعلامية لنشر ثقافة السلام عبر الوسائط الاعلامية والمناهج التعليمية.
ختاما، اعتمدت المصالحة التي نفذت في مناطق مختلفة بالبلاد علي آليات المصالحة التقليدية في الأغلب، وقد لعب فيها الحل العرفي للنزاعات دورا رئيسا. ساهمت القيادات الاهلية في تسوية بعض النزاعات من خلال اشتراكها في لجان الاجاويد والمصالحات، لان المجتمع المحلي مازال يتقبل الادارة الاهلية، كذلك المجتمع المحلي يؤمن بالعرف من عادات وتقاليد في تسوية النزاع.
هذا لا يكفي فلابد من تعزيز وجود مؤسسات الدولة وانتشار نقاط الشرطة والنيابة في مناطق البلاد التي شهدت نزاعات وغيرها. كما يجب تعزيز دور الشباب “لجان المقاومة” واشراكها بشكل أكبر في مؤسسات الحكم المحلي ، لأن لجان المقاومة عابرة للولاءات الأولية.
الأبرز في معظم المصالحات التي تمت كان هناك غياب المرأة عن عمليات المصالحة، ربما يبرر البعض لعوامل ثقافية، لكن ذلك التبرير غير مقبولة لأن ثورة ديسمبر ثورة مفاهيم لذا لابد من ايجاد الية لضمان مشاركتها في المصالحات الاجتماعية توازي مشاركتها في صناعة التغيير. ايضا مشاركة المجتمعات التي تشارك أطراف النزاع المنطقة، لأن معظم المصالحات تتم بين أطراف النزاع، لذلك لابد من جعل المصالحة عملية مجتمعية تشمل جميع المكونات، لأنها تتضرر، هناك بعض المجتمعات دفعت لتكون طرف من أطراف النزاع في بعض الحالات وفي البعض الاخر شملها الضرر لكن لا يذكر اثناء المصالحة ولا يجبر الضرر.
لابد من تعزيز دور “لجان” المقاومة تحديا في المناطق التي شهدت نزاعات، وتمليكها تدريب لرفع قدراتها في المشاركة في المساعي الحميدة لتحقيق المصالحة وبناء السلام. ومن الضروري أن تشمل لجان المقاومة علي النساء حتى تعزز قدراتهن في جميع مراحل المصالحة وبناء السلام.