(١)
“إن ما خرجت تبحث عنه تركته وراءك في بسطام”
(الشيخ أبا يزيد البسطامي)”
بقلم/ الباقر العفيف

مقدمة
تجري في جوبا مباحثات للسلام. أطرافها معلومة. بيد أن الأخبار والمعلومات التي تخرج منها شحيحة. لا يعرف المتابعون منها إلا ما يدلي به بعضُ المتفاوضين من تصريحات صحفية محسوبة تُفصِح عن شيء وتُخفي أشياء. لا تُوجَد وثيقة أو مسودة مُلّكَت للعامة بحيث يمكن الاطلاع عليها لمعرفة ما اتُْفِق عليه. الشعب ليس جزءا من هذه المباحثات ولو على مستوى المتابعة. السلام يبدو كبضاعة نادرة مستوردة من الخارج، سوف تُعْلَن للجمهور في الوقت المناسب، ربما على أعتاب العيد، كمفاجأة سارة. كل ما يعرفه الشعب عن هذه المباحثات هو أن هناك منبران للتفاوض، أحدهما بين الوفد الحكومي والجبهة الثورية التي تضم تسعة فصائل. والمنبر الآخر بين الوفد الحكومي والحركة الشعبية شمال التي يترأسها عبد العزيز الحلو. وأنه بينما تَعَثَّرت المفاوضات في المنبر الثاني تَقَدَّمت في المنبر الأول. وما زالت هناك حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد النور التي تقاطع هذه العملية برمتها. استعصمت بالرفض. ولم تفصح بَعدُ عن استراتيجيتها للسلام.

المنبر التفاوضي الأول
أتناول في هذا المقال المنبر التفاوضي الأول بين الحكومة والجبهة الثورية. وسأتناول المنبر الثاني في مقال قادم. أما هنا، فأعرض ملاحظاتي في ثلاثة عناوين فرعية هي: “وفود التفاوض”، و”الغائبون عن التفاوض”، و”محتوى التفاوض”.

وفود التفاوض:
أولا، الوفد الحكومي:
الوفد الحكومي يتكون جميعه من مجلس السيادة الانتقالي ويتألف من ثلاثة عسكريين ومدني واحد، هم محمد حمدان دقلو (حميدتي) رئيسا، وعضوية كل من ياسر العطا وشمس الدين كباشي، ومحمد الحسن التعايشي. وقد انضم إليهم في فترات مختلفة مجموعة من الأفراد بصفتهم أعضاء في تجمع الحرية والتغيير والمجتمع المدني مثل شمس الدين ضوء البيت، وإسماعيل التاج، وأزهري علي، ومحمد فاروق، وإبراهيم الشيخ. وليس واضحا لي تماما إذا ما كانوا يشاركون بصفتهم مستشارين للوفد الحكومي أم جزء من وفد التفاوض أم جزء من الوساطة. كذلك اشترك يوسف الضي، وزير الحكم المحلي، وحسان نصر الله علي كرار، وكيل وزارة الحكم المحلي، وضابط إداري قديم اسمه طه. ولواء أمن عصام عوض الكريم، بالإضافة لمجموعة مستشارين من وزارة العدل عددهم يتراوح ما بين خمسة إلى سبعة أفراد. الملاحظ في الجانب الحكومي هو عدم ثبات العدد. فهناك أناس يجيئون ويذهبون لا تُعرف على وجه الدِّقَّة الصفات التي يحضرون بموجبها المفاوضات ولا الأدوار التي يلعبونها فيها.

ثانيا، وفد الجبهة الثورية
تتكون الجبهة الثورية من تسعة فصائل هي الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال التي يقودها مالك عقار وياسر عرمان. وضمن وفدهم بثينة وإشراقة. وحركة جيش تحرير السودان جناح مني أركو مناوي. وضمن وفدهم محمد بشير أبو نمو، حسين أركو مناوي، نور الدايم طه، محمد حسن هرون (أوباما) وهو الناطق الرسمي باسم الحركة. وحركة العدل والمساواة التي يقودها جبريل أبراهيم. وضمن وفدهم أحمد آدم بخيت، وأحمد تقد، وزكريا، ومعتصم أحمد صالح، ودكتورة إيثار خليل إبراهيم. وتجمع قوى تحرير السودان التي يقودها الطاهر حجر وعبد الله يحيى. وحركة جيش تحرير السودان- المجلس الانتقالي- التي يقودها د. الهادي إدريس ونمر عبد الرحمن. والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة برئاسة الأمين داوود، وأمينها العام عبد الوهاب جميل. بالإضافة لبعض التنظيمات من شرق وشمال ووسط السودان، مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي- الجبهة الثورية برئاسة التوم هجو، ومؤتمر البجا المعارض، برئاسة أسامة سعيد. وحركة تحرير كوش برئاسة أحمد داوود، وضمن وفدها دهب أبراهيم دهب، وصلاح إبراهيم دهب.

الغائبون عن التفاوض
ثالثا، يُلاحظ غياب أي ممثل للسلطة التنفيذية أو مجلس الوزراء عن الوفد الحكومي. وكذلك غياب حاضنته السياسية، قوى إعلان الحرية والتغيير. جاء أبراهيم الشيخ ضمن وفد من الحرية والتغيير ولكن اعترضت عليه حركة جيش تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي. وفي الحقيقة لا أجد تفسيرا منطقيا لهذا الغياب. بل كان من الأفضل أن يمثل الوفد قوى الثورة تمثيلا شاملا وحقيقيا. وذلك بأن يضم ممثلين لمجلسي السيادة والوزراء، وممثلين لقوى إعلان الحرية، بالإضافة لشباب من الجنسين، منتخبين بعناية، ليمثلوا لجان المقاومة. إن وفدا مثل هذا كان سيعكس وحدة مكوني الحكومة والحاضنة السياسية وشباب الثورة. فإذا أضفنا لذلك مجموعة الخبراء والمستشارين الذين ينظرون للسلام بمنظور استراتيجي والإعلاميين الذين يربطون الشعب كله بهذه المفاوضات لاكتسبت بعدها المجتمعي، وزخمها الثوري ومشروعيتها الشعبية.
وبالإضافة لذلك كنا سنفارق الأسلوب القديم البالي لنجترح لأنفسنا دربا جديدا في تحقيق السلام يشبه ثورتنا العظيمة. وكان انتفى الحديث عن استحواذ مجلس السيادة على ملف السلام وإقصاء الحكومة التنفيذية منه. ولكنا استعدنا التوازن في ميلان كفة الثقل العسكري في الوفد المفاوض. فالعسكريون لهم خبراتهم الميدانية القتالية، ولكن لم يُعرَف عنهم فهمهم العميق لجذور الحرب، أو إلمامهم بمراحلها التاريخية وتعقيداتها وتطور المفاهيم السياسية للحركات المسلحة. كما إنهم لم يكونوا جزءا من الحوار السياسي والفكري حول الحرب والسلام الذي كان يجري في دوائر المعارضة طيلة العقود السابقة. لقد عَمَّق هذا الحوار الفهم العام لجذور الحرب مما يساهم في وضع الحلول الشاملة لها. ولقد رأينا مفاوضي حكومة الإنقاذ وكيف يجزؤون القضايا، وكيف يهتمون ببذل وظائف السلطة لإغراء معارضيها المسلحين أكثر من اهتمامهم بتحقيق السلام العادل على الأرض.

رابعا، يلاحظ أيضا غياب خبراء النزاعات وقضايا السلام بالرغم من أن وجودهم كمرجعيات فنية ضروريٍّ جدا. وقد شكَّل الخبراء، سواء كانوا سودانيين أو أجانب، حضورا واضحا في جميع المفاوضات السابقة ولعبوا فيها أدوارا مهمة كمصادر للمعلومات الصحيحة حيثما اصطدمت معلومات المفاوضين حول التاريخ والأحداث، وكداعمين فنيين في مجال الصياغات، وكمبادرين بإيجاد المخارج التوفيقية كلما ارتطم مركب المفاوضات بصخرة في العباب. فمثلا في أبوجا لعب هذا الدور من الخبراء الأجانب كل من البروفيسور أوفاهي والدكتور ألِكس دي وال وكلاهما متخصص في دارفور، الأول في تاريخها والثاني في حاضرها. وبطبيعة الحال كان من الممكن الاستفادة من عدد كبير من الخبراء السودانيين الذين سكبوا مدادا كثيرا في قضايا النزاعات والحروب الأهلية في السودان. وغاصوا في جذور المشكلة بالتحليل العلمي المُوثَّق. كان من الممكن على سبيل المثال الاستفادة من مراكز السلام في جامعة الخرطوم وجامعة بحري وغيرها من الجامعات. وكذلك الاستفادة من أساتذتنا الكبار أمثال الدكتور محمد سليمان، والدكتور موسى عبد الجليل، والدكتور عبد الغفار محمد أحمد، والبروفيسور يوسف تكنة، وكذلك من الأجيال اللاحقة البروفسير عطا البطحاني، والدكتور جمعة كندا، والدكتورة سعاد حاج موسى مؤلفة كتاب “الصقور والحمائم في الصراع المسلح في دارفور: حكامات دارفور البقاريات”، والدكتورة فايزة حسين، والأستاذة صفاء العاقب، والدكتور منزول عسل، والأستاذ عبد العزيز محمود، وهذا فقط على سبيل المثال لا الحصر.

وكان حري بالحكومة اشراك مجموعة من الشخصيات القانونية المرجعية، والمثقفين الذين اهتموا بالنزاعات والسلام وكتبوا فيها كثيرا. هؤلاء الخبراء والأكاديميون كانوا سيقدمون استشاراتهم للمفاوضين مباشرة في طاولة المباحثات، ويتولون الدعم الفني كتدقيق صياغات أوراق ووثائق التفاوض. والأهم من ذلك كله أنهم كانوا سيؤدون مهام تثقيفية للمفاوضين، على هامش المفاوضات، عن طريق الندوات المسائية التي يشارك فيها الجميع بالنقاش فتؤدي إلى توسيع المدارك وتشبيع جو التفاوض بالفكر السياسي والمعرفة التاريخية.

محتوى التفاوض
أصبح هناك شبه إجماع على أن قضية الهوية تمثل الجذر الأعمق للحروب الأهلية في البلاد. فالتعدد الثقافي والديني والتاريخي والجغرافي والاثني واللغوي الموجود على أرض بلادنا الواسعة ليس موجودا أو منعكسا في مؤسسات الدولة وسياساتها. فدولتنا عبارة عن تجسيد لعناصر هوية إثنية واحدة. أي تجسيد لثقافة واحدة، ولغة واحدة، ودين واحد، وفهم واحد داخل هذا الدين الواحد. ليس هذا وحسب بل هناك محاولات مستمرة ومستميتة من الطبقة الحاكمة لاستخدام قوة الدولة وجبروتها لمحو هذا الواقع التعددي وإزاحته من الوجود إما عن طريق ما أسميته سياسات “الشمألة” أو “الشميلة”، وأعني بها نشر عناصر هوية أهل الشمال النيلي، كما تَتَمَثَّلها وتُمَثِّلُها الطبقة الحاكمة، لتصبح عناصرا لهوية البلاد قاطبة، وذلك على حساب الهويات الأخرى. وبعبارة أخرى تحويل الهوية الثقافية للطبقة الحاكمة لتصبح هي الهوية الوطنية للبلاد. أي أن تتطابق الحدود الجغرافية مع الحدود الثقافية للطبقة الحاكمة. وهذا لن يتم إلا بواحد من طريقين. إما أن يخلع الآخرون هوياتهم ويلبسوا جلباب الطبقة الحاكمة، ويدخلون في هويتها أفواجا، أو أن يذهبوا في حال سبيلهم وينفصلوا. فالانفصال وتشرذم البلد وتقزيمها في حدود مثلث حمدي هي الثمار المرة لهذا المشروع اللا عقلاني. فمثلما انفصل جنوب السودان، كذلك يلوح في الأفق انفصال جنوب كردفان والنيل الأزرق. كما إن دارفور ليست بعيدة من هذا المصير. أما قادتنا فهم نفسهم هم الذين شبههم الدكتور منصور خالد بآل البوربون الذين لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا.

تمظهرت محاولات الشميلة في إغفال تاريخ الحضارات السودانية القديمة، وانتخاب فترة تاريخية واحدة، هي فترة دخول العرب في السودان، لتصبح بداية لتاريخنا. كما تمثلت في تعريف السودان كبلد عربي، وتقرير طبيعة الدولة كدولة دينية، وسن قوانينها بناء على الشريعة الإسلامية. كما تمظهرت في الالتصاق بهامش العالم العربي وتَشَرُّب ثقافته والتورط في قضاياه من ناحية، وإدارة الظهر لأفريقيا والجهل بثقافتها وإهمال تاريخها وارتباطنا بها من الناحية الأخرى. ولقد حسَمَت الطبقة الحاكمة الشمالية في المركز جميع هذه الأمور المصيرية بصورة أحادية انتجت إقصاءً لجميع المكونات المجتمعية الأخرى التي اعتُبِرت “أقلية” يجب إخضاعها بالقوة الجبرية لتندرج في هذه الترتيبات. اعتُبِرَت المكونات الأخرى “أقلية” ليس بسبب عددها، فمن حيث العدد هي الأغلبية المطلقة، ولكن بسبب خفة “وزنها” السياسي وتدني “قيمتها” الإنسانية أو ال human worth في نظر الطبقة الحاكمة. وهذا ما أنتج الحروب الأهلية وأدى لانفصال الجنوب، ومحارق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتململ شرق السودان وصراعاته. وهو أيضا ما أنتج التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لهذه المجموعات، وكذلك العنصرية المؤسسية وكل أمراض الاستعلاء العرقي والثقافي.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل يُدْرِك المتفاوضون، وبالذات الجانب الحكومي، جذور المشكلة على هذا النحو؟ وإذا كانت الإجابة لا كما أُرَجِّح، فما هي استراتيجيتهم للسلام؟ لأنه بدون هذا التصور يصعب أن تتوفَّر لديهم رؤية شاملة تسعى لوضع حد نهائي للنزاعات في البلد واقتلاع شجرة نسب الحروب الأهلية في البلاد من جذورها؟ فإن صح هذا، لم يبق إلا أن يكون الوفد الحكومي ذهب ليُقَدِّم بعض المُغْرِيات لقادة الحركات المسلحة تحفزهم لتوقيع وثيقة للسلام شبيهة بسابقاتها من الوثائق التي لم توقف حربا على الأرض ولم تحقق سلاما بين الناس. وعندنا من هذا النوع من اتفاقيات السلام ما يكفي وزيادة.

لماذا تَقَدَّمت المفاوضات مع الجبهة الثورية وتَعَثَّرت مع الحركة الشعبية شمال برئاسة الحلو؟
تَقَدَّمت المفاوضات مع الجبهة الثورية خطوات لأنها تجاوزت عن طرح القضايا السياسية المصيرية، مثل قضية جذور الحرب وسؤال الهوية وكيف يُحكم السودان، بينما تصر مجموعة الحلو على طرحها. رأت الجبهة الثورية تأجيل هذه القضايا المصيرية لحين قيام المؤتمر الدستوري. ولذلك لم يتبق شيء يُتَفاوَضُ حوله سوى القضايا الفنية مثل الترتيبات الأمنية وتقاسم الثروة والسلطة وقضايا النازحين واللاجئين والرُحَّل والعدالة والمصالحات والتعويضات وغيرها من القضايا. أي الاتفاق على النِسَب والكَمْ والكَيف.

ولعمري هذا أمر مثير للدهشة إن لم نقل عنه مؤسف ومحبط. لأن المفترض إن ما يجمع بين مكونات الجبهة الثورية هي القضايا المصيرية. فالجبهة الثورية بطبيعة تكوينها القومي كانت مؤهلة للانشغال بالقضايا الكلية الجذرية المتعلقة بأسس بناء سودان جديد تنعدم فيه أسباب الحروب. كان منتظرا منها أن تتقدم برؤية شاملة لشكل الدولة ودستورها، وقوانينها، وأقاليمها، وجيشها، وشرطتها، وأجهزة أمنها، وخدمتها المدنية، واقتصادها، ونظمها التعليمية والثقافية والإعلامية وعلاقاتها الدولية. وكيف تبُنىَ كل هذه النُظُم على أسس الهوية ذات الأبعاد المتعددة ثقافيا ودينيا واثنيا ولغويا.

كان من المفترض أن تشمل المفاوضات المخاطر الحالية التي تتعرض لها الثورة من قبل أنصار النظام المباد داخل الجيش والأجهزة الأمنية ومليشيات الكيزان وأن تُتَّخَذ من الإجراءات العاجلة ما يؤمن للثورة جيشا يحميها ويضمن نجاح الفترة الانتقالية. كان يمكن للمفاوضات أن تتحول لعملية بناء السلام وحماية الثورة في آن واحد، وأن تِطلِق مسارا شعبيا لصناعة الدستور ينخرط فيه الجميع خلال الفترة الانتقالية. كان المتوقع أن ينخرط القادة الكبار في مثل هذ القضايا المصيرية الكبرى التي تُؤَسِّس لدولة راسخة تبقى لأجيالنا القادمة بعد مئات السنين. وبهذا يصبحوا الآباء المؤسسين للسودان الذي حلم به شباب الثورة وشهداؤها. أما القضايا الفنية فكان يمكن أن تُحَال لِلِّجان الفنية المتخصصة من الطرفين.

لم يحدث هذا بكل أسف. بل على غرار “حدس ما حدس”، أزاحت الجبهة الثورية هذه القضايا المصيرية من طريقها حتى لا تحول بينها وبين حصد ثمرات الفترة الانتقالية. وبطبيعة الحال ما إن انفتح “باب الثمرات” من “كتاب الكفاح” حتى تشرذمت الجبهة الثورية كجبهة وبرزت مكوناتها المختلفة كل يريد أن يظفر بنصيب الأسد من غنائم “السلام”. ومكونات الجبهة الثورية فيها الحامل وفيها المحمول. فحركات دارفور والحركة الشعبية شمال بقيادة مالك عقار وياسر عرمان يمثلون عظم ظهر الجبهة الثورية. وهم يحملون على ظهورهم بقية المكونات. ويبدو أنه آن أوان التخلص من عبء الحمولة. ولكي ما يجري ذلك بطريقة مناسبة ابتدعت الجبهة الثورية مصطلح “المسارات”. فأصبح هناك مسارا للوسط ومسارا للشرق ومسارا للشمال ضمنت للحمولة نصيبهم الذي لم يُفْصَح عنه بعد، فوقَّعوا “اتفاقيات سلامهم”، أو بالأحرى “استلامهم”، مع الوفد الحكومي وانصرفوا. الآن كل أصحاب مسار من أهل الحمولة (ناس التوم هجو) برز له منافسون من مكونات أقاليمهم ينازعونهم على العَظْمَة الُمبْهَمة التي أُلقِيت لهم، ضَعُف الطالب والمطلوب.

أما الحامل من الجبهة الثورية فانقسم لقسمين، “مسار النيل الأزرق وجنوب كردفان” و”مسار دارفور”. أما المسار الأول ففيه قنبلة موقوتة تتمثل في الحركة الشعبية شمال بقيادة القائد عبد العزيز الحلو، الذي ينازع رفاقه السابقين مشروعية تمثيل المنطقتين. أما المسار الثاني فسرعان ما سوف ينقسم بعدد الحركات المسلحة المكونة له. وقد بدأت بوادر هذا الانقسام بين حركتي جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي والعدل والمساواة بقيادة جبريل أبراهيم. والبقية ستتبع قريبا. وكلنا نعلم أن الصراع حول المغانم هو من أشرس أنواع الصراعات. فسوف يختصم رفاق الأمس ويشمرون عن سواعدهم ويمسكون بتلاليب بعضهم بعضا، ويُشهِرون مخالبهم وأنيابهم. وربنا يكضب الشينة.

تطالب حركات مسار دارفور ب ٣٠٪ من وزراء الوزارات الاتحادية من بينها وزارتين سياديتين. و٣٠٪ من وزراء الدولة. و٣٠٪ من أعضاء المجلس التشريعي. و٣٠٪ من رؤساء اللجان في المجلس التشريعي. و٣٠٪ من المفوضيات الإقليمية. أما في إقليم دارفور فيطالبون ب ٨٠٪ من ولايات دارفور الخمس إلى حين قيام الحكومة الإقليمية. عندها يكون نصيبهم من حكومتها ٧٠٪ على أن تؤول لهم رئاستها بالطبع.

وهكذا استغرق المفاوضون في المساومة (خد وهات) مع وفد الحكومة. وكأنها مفاصلة على الثمن بين بائع وزبون مشتري، هذا إذا اعتبرنا السلام هو السلعة التي “تجلبها” الحركات المسلحة لتبيعها لحكومة “الجلابة”. تفعل الجبهة الثورية ذلك بينما أعين قادتها على مناصب الحكومة الانتقالية، يريدون أن يوقفوا الحياة في البلاد إلى أن يفرغوا من المساومة ليأخذوا نصيبهم من الوظائف. إذ تصر الجبهة الثورية على تعطيل عملية استكمال مؤسسات الفترة الانتقالية من مجلس تشريعي وتعيين حكام الأقاليم إلى ما بعد توقيع اتفاق السلام ليتسنى لقادتها المشاركة فيها باسم “استحقاقات السلام”.

أليست هذه هي ذات الطريقة القديمة التي كانت تدير بها دولة الإنقاذ الزبائنية مباحثات السلام مع القوى الحاملة للسلاح. حيث تعني اتفاقيات السلام معها تَوَسُّعا في وظائف الدولة لإرضاء حملة السلاح وقادتهم السابقين واللاحقين، والمنشقين والمنشقين-عليهم، وكل جحافل المناضلين ورفقاء الأيام الصعبة. ولا يهم أن يترهل جهاز الدولة الإداري حتى لا يقوى على النهوض على قدميه. فيُرهِق كاهل المواطن الغلبان، الذي حمل هؤلاء المناضلين السلاح لأجله، بالضرائب والإتاوات، ويفتح أبواب الفساد على مصراعيها.

ولقد رأينا رأي العين ما يمكن أن يفعله هؤلاء المناضلين عندما ينيخون زواملهم على كراسي السلطة. رأيناه في دولة جنوب السودان حيث تقاسم الكومريدز أموال الدولة الوليدة فيما بينهم حتى شاهدنا بأم أعيننا ما لم يخطر على قلب بشر، شاهدنا ابن وزير الدفاع السابق لحكومة جنوب السودان يصور نفسه مطمورا في جبل من الدولارات الأمريكية، يغرف منه بيديه ويهيل على رأسه، كأنه يستحم بها، في حين يَتَضَوَّر شعبه جوعا. ورأيناه أيضا في السودان في أثناء وبعد مفاوضات الدوحة، ذلك المولد الكبير، الذي انفتحت للكيزان فيه خزائن أمراء قطر فسال لعابهم لها أنهرا وجداول، وألقوا بكيانهم كله فيها. جعلوها تتطاول لثلاثين شهرا، أقاموا خلالها في الفنادق، تحت الضيافة القطرية السخية، هم وأسرهم، لدرجة أن سمعنا أن بعضهم حملت نساؤهم وولدن هناك. اتخذ الكيزان اتفاقية الدوحة وسيلة لإفساد المناضلين السابقين الذين لم يترددوا لحظة في الانضمام لجوقة الفساد الغارقة في الأموال والمتع الحسية بينما شعبهم يتضور جوعا. وأخشى ما أخشاه أن نكون ما نزال نغذ السير في نفس ذلك الدرب القديم المفضي إلى الهاوية.
نواصل