بقلم – أحمد حمدان
تسير حكومة الثورة الانتقالية على درب النظام المباد، في تنفيذ السياسات الأمنية بمناطق النزاعات “دارفور وجنوب كردفان”، وقع الحافر على الحافر، وليس بمستغرب ذلك من المكون العسكري الذي يعد امتداداً لذلك النظام ولكن المستغرب هو سكوت المكون المدني الذي يفترض ان يكون نابعاً من ثورة قامت لهدم سياسات قميئة لنظام جمع كل صفات القبح والدمامة.
الواضح أن السياسات التي بدأ تنفيذها الولاة الجدد في بعض ولايات النزاعات منها “جنوب دارفور وجنوب كردفان” هي تستهدف الضحية لا الجلاد، مثلاً في جنوب دارفور “أوقفت قوات مشتركة عدد من المواطنين بمدينة كاس والنازحين بالمعسكرات قرب المدينة، أغلبهم لجان مقاومة وناشطين، وذلك على خلفية احتجاجات شهدتها المدينة في أول أيام العيد انتهت بحرق مؤسسات حكومية”. وكانت هذه الاحتجاجات بسبب هجوم دام شنه مسلحون على قرية “برونقا” قرب كاس في الساعات الأولى من صباح أول أيام عيد الأضحى مما تسبب في مقتل وجرح العشرات إضافة إلى حرق القرية.
بالنظر لهذه الأحداث كان الأولى على حكومة الولاية تعقب المجرمين الذين أزهقوا أرواح الأبرياء بأسلحتهم الفتاكة وتقوم بالقبض عليهم ونزع أسلحتهم وتقديمهم للمحاكمة، بعدها يمكنها ان تقوم بالقبض على من احرقوا المؤسسات الحكومية خلال احتجاجات مواطنين تمثل ردة فعل ضد هذه الانتهاكات، ولكنها فعلت العكس بل قامت باعتقال أبرياء يمثلون حماة للثورة وأهدافها التي قامت من أجلها.
وحسب وكيل النيابة بمدينة كاس، محمود عبد المنعم، فإن اجراءات القبض ضد المواطنين تمت بقانون الطوارئ ولم تخضع لسلطات النيابة، وشملت الاعتقالات أعضاء بلجان المقاومة ليس لهم صلة بالأحداث وإنما جاء اعتقالهم تعسفا بسبب مطالباتهم المستمرة بإقالة مدير الشرطة وآخرين، وفقاً لتصريح نشره موقع “دارفور 24”.
وكان والي جنوب دارفور موسى مهدي، أصدر توجيهات للقوات الحكومية باعتقال كل من شارك او حرض أو أسهم في الاحتجاجات التي شهدتها مدينة كاس في أول أيام عيد الأضحى المبارك، ولكنه لم ينطق حتى اللحظة او يصدر قرارا او توجيهات مماثلة بشأن المسلحين الذين هاجموا قرية “برونقا” وقتلوا وحرقوا ونهبوا ما استطاعوا إليه سبيلا، تماماً كما كان يفعل النظام السابق يترك “الفعل” ويقمع “رد الفعل”.
ذات الأمر يتكرر في ولاية شمال دارفور ولو أنه بدأ في عهد الوالي العسكري لكنه استمر في عهد الوالي المدني الجديد الذي يمثل الثورة. ففي منتصف يوليو الماضي شنت القوات العسكرية حملة اعتقالات ضد عدد من المواطنيين بينهم نساء وأطفال بمدينة “كتم” على خلفية احتجاجات تطورت إلى حرق مقر الشرطة بالمدينة، وذلك على خلفية الهجوم على منطقة “فتابرنو” بواسطة مليشيات مسلحة.
ولكن القوات التي اعتقلت المواطنيين السلميين لم تحرك ساكناً تجاه المجرمين المسلحين الذي استباحوا قرية “فتابرنو” وقتلوا نحو 9 أشخاص وعشرات الجرحى إضافة إلى عمليات الحرق والنهب التي صاحبت الهجوم.
ولا زال حتى اللحظة يقبع عشرات المواطنين المدنيين من كتم في الحراسات بينما يتمتع المسلحين الذين قتلوا الأبرياء في “فتابرنو” بكامل الحرية وربما يتأهبون إلى هجوم جديد في مكان ما.
اما وفي جنوب كردفان فقد بدأت الحكومة في تنفيذ اجراءات أمنية في غاية الغرابة، وهي كما نقله “سودان تربيون” “بدأت القوات المشتركة بمدينة كادقلي، حاضرة ولاية جنوب كردفان، في نزع الأسلحة النارية من العسكريين، وتسليمها إلى وحداتهم، كما شرعت في جمع الأسلحة البيضاء من المدنيين لوقف النزاع القبلي بالولاية”.
ولكي نفهم هذه الإجراءات دعونا ننشط الذاكرة بالأحداث التي شهدتها مدينة كادوقلي في مايو الماضي من قتال بين قوات من الجيش والدعم السريع، ادت إلى مقتل وجرح عدد من الطرفين، وتذكرون “دموع حميدتي” امام كاميرات التلفزة عقب زيارته لجرحى تلك الأحداث، وتذكرون وعده القاطع بتشكيل محاكم ميدانية لمعاقبة المتفلتين من القوات العسكرية في الأحداث التي وقعت والأحداث التي تليها، لكن لم يحقق الوعد ولن يفعل، وما ذرفه من دموع هي بالضبط كما يقولون “دموع تماسيح” .. هذا الرجل لديه قدرة هائلة على اصطناع البراءة وخداع الناس بما يقوله.. سنأتي لذلك في مكان آخر.
وبالعودة للإجراءات الأمنية التي اتخذتها الولاية نجدها شرعت في نزع السلاح من العسكريين وتسليمها لوحداتهم، بينما تنزع الأسلحة اليضاء من المواطنيين ولا نعرف ماذا بشأن الأسلحة النارية التي يحوزها المواطنين.. فبدلاً من ان تقوم بنزع السلاح من المواطنيين وحصره على القوات النظامية التي تضبطها اجراءات معروفة منذ الأزل، قامت بفعل العكس، فيا له من أمر غريب!!.
ما يجري في جنوب كردفان هو بالضبط ما حدث ويحدث في دارفور بعد نقله بواسطة “جرثومة” فتاكة بالمكونات الاجتماعية، ذات الصراع الذي عنوانه “القبائل العربية ضد الافريقية” في دارفور، بدأ يتخلق الآن في جنوب كردفان بين “الحوازمة دار نعيلة والنوبة”، ومثلما كانت يد الدولة هي المحركة لهذه الصراعات التي تبدأ صغيرة، لا تزال الأيادي الخفية تواصل ذات الأمر للعبث بالنسيج الاجتماعي للسكان.