بقلم : محمد بدوي
من نافلة القول أن التطورات السياسية في السودان عقب ابريل 2019 ظلت تؤكد حرص الشارع السوداني على مبدأ المحاسبة في ترجمة لشعار السلمية الذي شكل روح وفلسفة التغيير، لكن رغم ذلك تعددت الأسباب التي ظلت تعيق السير الطبيعي في ذلك منها سياسية مرتبطة بطبيعة العلاقة في الشراكة بين طرفي السلطة المدنيين والعسكريين التي ظلت تخضع لصراعات معلنة وغير معلنة أثرت على مجمل الأداء، بالإضافة إلى الفساد الذي طال أجهزة تنفيذ القانون و بنيتها خلال الفترة السياسية السابقة، الصراع الذي سبق التوقيع على الوثيقة الدستورية إنعكس سلباً في محتوى الوثيقة وقصورها في أحكام شمولها بما يتسق و طبيعة المرحلة الإنتقالية المرتبطة بسجل واسع من التراجع لفترة ٣٠ عاماً.
بالمقابل ظلت المؤسسات التي تخضع للإشراف السيادي ترزح في بيئة عملها وهيكلتها المرتبطة السابقة دون جهود جدية للإصلاح، الأمر الذي إنعكس ايضا في تراجع دور بعض هذه المؤسسات التي أخضعت للنفوذ السياسي للسلطة السابقة وإستغلالها بما يدعم السلطة السابقة في البقاء والقهر وتنفيذ السياسات الحزبية ، فتشكلت بنيتها مرتبطة بممارسة مناهضة للمهنية و سيادة حكم القانون و الحرمان من الوصول للعدالة، بالنظر إلى النيابة العامة تعتبر حديثة التكوين في العام 2017 وصاحب تعيين أول نائب لها عقب الثورة تطورات كثيرة بين رفض لبعض المرشحين من قبل بعض مكونات السلطة إلى أن إستقر الحال على النائب العام السابق مولانا تاج السر الحبر الذي إعتذر قبل قبوله الأمر، والذي إنتهى به الحال بالإستقالة بعد أن شهدت فترة توليه صراعات يمكن وصفها من حيث الطبيعة تنفيذي نقابي دون الخوض في تفاصيله الآن لكنها كشفت عن التعقيدات التي شابت بيئة العمل والأثر المرتبط بذلك في فترة النيابة العامة أحوج فيها إلى مناخ معافى وبيئة عمل مساعدة ومعينات تقنية ومادية لأداء دورها المرتبط بالتأسيس لسجل المحاسبة و المساندة لتحقيق العدالة.
بالرغم من إستقالة مولانا تاج السر الحبر من منصب النائب العام وتكليف مولانا مبارك محمود تراجع الصراع التنفيذي النقابي لكن ظل الواقع يشير إلى بقاء الأزمات في مسار بيئة الأداء على سبيل المثال لا الحصر مسألة الطب العدلي أو بتعبير آخر الدعم التقني الذي تتطلبه بعض القضايا.
التطورات التي إرتبطت بزيارة الفريق الطبي الأرجنتيني والجدل الذي صاحب زيارة الفريق لمشرحة مستشفي الامتياز بالخرطوم دون الخوض في تفاصيلها كشفت ضعف التنسيق بين مؤسسات الدولة المختلفة وغياب أدوات إدارة الأزمات بقوة دفع إيجابية ليستمر المشهد ليحرم الدولة من الإستفادة من فرص جوهرية تقدمها بعض المؤسسات الدولية بشكل مستقل و أحيانآ تعاقدي و تارة تحت إشراف بعثة اليونتامس حيناً في إطار التعاون الدولي ولعل الخطوة التي كشف عنها النائب العام المكلف في لقائه باحدى القنوات الفضائية والتي كشف خلالها عن نقل رفاة أحد المقابر الجماعية إلى دولة الإمارات لإجراء فحص عن DN نسبة لتوفر المعامل وتطورها يثير الأسف و الأسى و يكشف العبث الذي طال الدولة السودانية خلال العقد المنصرم و تراجعها في القيام بعمليات تقنية بسيطة وغير معقدة فنياً.
حسنا فإن الأمر يأتي في سياق ممارسة النيابة لسلطاتها وفقا للمادة 55 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991 والذي أعطى صلاحيات واسعة للنيابة و لعل الإستعانة ببيوت الخبرة أو المؤسسات الخارجية تتطلب النظر الي عدة أوجه للأمر بين إمكانية توطين التقنية داخليا و صعوبة ذلك، وبين الحوجة للتقنية لعدد محدود من الحالات أو حالات كثيرة، لإرتباط الأمر بعلاقات مستقبلية في سياق المحاسبة من استدعاء الخبراء للإدلاء بشهاداتهم أمام القضاء إن استدعي الأمر، في وقت كانت التقنية ليست قيد الإمكان بما هو عليه اليوم شهد السجل السوداني إستعانة القضاء السوداني في حالات فردية بخبرة خارجية من جمهورية ألمانيا تعلقت ايضا بفحص الحمض النووي في قضايا لإثبات نسب لطفلي حديثي الولادة .
كما أشرت إلى سلطات النيابة في الإستعانة بالخبرة الخارجية في راهننا الإنتقالي مرتبط بالسجل الواسع للحالات التي تتطلب الجهد التقني فإن الأمر يتطلب التأسيس القانوني للعلاقة سواء عبر بروتكول للتعاون أو مذكرة تفاهم أو تعاقد بين النيابة والمؤسسة التي تقوم بذلك و كل هذه المتطلبات قد تتطلب إجراءات إشرافية وتعاقدية ومالية مرتبطة بالمجلس السيادي بإعتبار أن النيابة تحت إشرافها بالإضافة إلى وزارتي العدل والخارجية في تفويضهما المرتبط بالتعاقدات الخارجية والإتصال بين مؤسسات الدولة والأخرى الأجنبية.
هذا فضلاً عن أن حالات التعاقد تتطلب توضيح أسباب إختيار المؤسسة المحددة و سجلها العلمي في ذات المجال لأن مجمل المسائل يجدر التعامل معها بما يدفع بالثقة من كل الأطراف في مجمل الجهود والنتائج النهائية سواء من النيابة أو القضاء في مراحل لاحقة ، لعله قد يكون من المفيد الكشف إن كانت هنالك تجارب سابقة بين النيابة العامة والمؤسسة الإماراتية لأنه قد يعزز الإجابة على بعض التساؤلات ويفتح الضوء اكثر لعلاقة تبعث الاطمئنان في التاسيس القانوني للتعاون ولا سيما أن حالة أحداث 3 يونيو 2019 شهدت جدلاً حول تفويضها في جزئية حسمت بطلب الدعم التقني من الإتحاد الإفريقي بما قد يشكل مؤشر للإستهداء به في حالات مشابه.
في سبيل ذلك و على ذات النهج الإيجابي الذي جسر به النائب العام المكلف العلاقة مع الإعلام عبر لقاءه الأخير قد يكون من المفيد تعزيزه بآخر تفصيلي يظل كمقترح دون التدخل في النطاق المرتبط بممارسة سلطاته التي منحها القانون، لإجلاء المرتبط بتلك الخطوة فكما أشرت قد يكون لها إنعكاسها الإيجابي في الراهن والمستقبل، فبالإضافة إلى ما أشرت إليه أعلاه هنالك مسائل أخرى لوجستية مرتبطة بالتدابير التي اتخذت لضمان سلامة نقل الرفاة وأخرى مرتبطة بالقيد الزمني للنتائج النهائية، ليظل السؤال الجوهري للمجلس السيادي السوداني و مجلس الوزراء في التفكير الإستراتيجي لتوطين التقنيات التي يتطلبها الحال والتي هنالك سجل أولى لها في سياق الممارسة العملية في السودان، فان الحال لا ينعكس فقط إيجاباً في توفرها لكن في تقليل تكلفتها فالأمر لا يتعلق بقضايا محددة تم الكشف عنها بل قد يمتد الأمر إلى مناطق النزاعات بدارفور و جنوب كردفان و النيل الأزرق مما يصعب معه الإستمرار في إرسال الرفاه الي الخارج .