بقلم: محمد فتحي أورفلي
سيظل التاريخ يحفظ في قلبه دائما مكانا لاولئك الذين احترقوا من اجل ان يضئ الطريق للاخرين ، الشجعان الذين تمردوا علي كل مألوف وعبروا عن رفضهم لكل ماهو مخالف لفطرة الانسان التي خلق عليها ” كرامته التي تتجسد في حريته ” ..
اصحاب الفكر الحر هم الاكثر حظوة عند نجوم السماء ، اصحاب الهمم العاليه والنفس الكريمه العزيزه والروح المشعة نورا والجباه الابيه التي ترفض الانحناء للظالمين والطغاة ..
ظلت تراودني فكرة الكتابة عن امثال هؤلاء وكان في بالي خمسه اعتبرهم من المميزين والاكثر استحقاقا للكتابة عنهم بمعاييري الخاصه ..
اردت ان اكتب عن الامام الحسين وتشي جيفارا لانهم في نظري اقصي درجات التجلي في معاني الفداء والتضحيات من اجل حرية وكرامه الانسان علي وجه الارض ومع الاسف لم اوفق الي الان في ذلك ، ثم اردت ان اكتب عن الشيخ محمد عبده ومالكولم اكس و المحبوب عبدالسلام ويسرت لي المقادير الامر فقررت في البداية ان اكتب مقتطفات صغيره عنهم ولكن سحبتني الكتابه عنهم الي اعمق مما كنت اتخيل ، وكلما تعمقت في الكتابه ، كلما سحبتني معها الكلمات الي ابعاد اعمق وبألتاكيد ما كتبته حتي الان هو هو مجرد غيض من فيض من سيرة هؤلاء واصر علي تأكيدي بأن جل ما اردته هو ابراز دورهم في حراك الفكر الاسلامي وما يبنهم من متشابهات علي المستوي الفكري والصفات الشخصيه وهم يستحقون اكثر من ذلك دون جدال وهذا حقهم الذي سيحفظه لهم التاريخ الي الابد ..
هؤلاء الثلاثه الذين اكتب عنهم الان اعتبر انهم نموذجا ومثال للعقل النقدي في اعلي تجلياته، عندما يتمرد علي كل المسلمات التي نشأوا عليها وعلي كل المقدسات التي كانوا يعتبرون ان الاقتراب منها امرا من المحرمات البينه التي لا لبس فيها ولا شك ، هؤلاء الثلاثه هم علي حسب الترتيب التاريخي : الشيخ محمد عبده ، مالكولم اكس ، المحبوب عبدالسلام ..
كنت اريد ان اكتب عن المتشابهات بينهم وعن الرابط الذي يجمعهم ، ولكن اتضح لي لاحقا ان الامر يتطلب مني اكثر من ذلك اذا اردت ان ابحر في هذا الباب فعلي ان ابدأ بأساتذتهم اولا، ومن ثم اتحول إليهم حتي استطيع الوصول الي خلاصة الفكرة التي اريد التحدث عنها بصورة اكثر سلاسه ووضوح. لذلك قررت ان ابدا بتناول بعضاً من بعض من سيرة هؤلاء الاساتذة ومن ثم انتقل الي التلاميذ. وسأبدا في ذكرهم متبعا نفس الترتيب والتسلسل التاريخي لهم في ذكرهم والتحدث عنهم ..
جمال الدين الافغاني ..
كان الشيخ جمال الدين الافغاني منذ طفولته متميزا علي اقرانه وبدات بالظهور عليه مبكرا علامات النبوغ والذكاء والتفوق ولذلك استطاع في شبابه المبكر ان يتحصل علي العلوم وان يصبح متمكنا في التحدث بلغات عدة بكل طلاقة وسلاسه ، اضف الي ذلك نشأته في بيت يجمع بين عز السلطه وشرف الدين ، حيث تنسب اسرته الي الامام علي بن ابي طالب وهو ما كان له كبير الاثر في وضع وتراتبية اسرتهم في وسط مجتمعهم ، من وسط تلك البيئة انطلق الشيخ جمال الدين الافغاني الي جولة في العالم الاسلامي لا يحمل معه الا عقل متقد وثقة وعزة بالنفس تنضح بها قسمات وجهه ، وكاريزما لا تخطئها عين ، وشخصية ساحره يعجز الناس عن مقاومتها ، والاهم بالتأكيد ايمان مطلق بفكرته العقائيديه القائمه علي اصلاح المجتمع عبر التجديد الديني الذي يستمد قوته من السلطه التي كانت في ذلك الزمان الخلافه الاسلاميه او الجامعه الاسلاميه كما كان يدعوها ..
في جولته تلك نجح تماماً في امرين ، الاول امتلاك عقول وقلوب الناس جميعا من سلاطينها وعامتها ، والامر الثاني كسب عداوة القادة والرؤساء وهو الذي قاد الي حتفه في نهاية الامر او كما ترجح بعض الروايات عن اسباب موته ، التأثير الاكبر كان في مصر حيث كانت مصر ممثلة في الخديوي اسماعيل رمزا للنهضه المعماريه والاقتصاديه والثقافيه ، ولذلك كان المجتمع مهيئا تماما لاستيعاب شخص وافكار جمال الدين الافغاني التي كانت تعتبر ثورية بمقاييس ذلك الزمان ، اجتذب جمال الدين الافغاني في مصر الكثير من الوزراء ومن المثقفين ومن الشيوخ وعلماء الدين ، ابرزهم عبدالله النديم ، ومحمد عبده ، ومحمود سامي البارودي ..
بسبب تميزه وسرعة صعوده علي راس المجتمع واقترابه الكثير جدا من السلاطين ، كان لابد ان يكون له اعداء يحسدونه ويخافون منه علي وضعهم وقربهم من السلاطين ، وتم تدبير الكثير من المؤامرات ضده ونجحت في معظمها بخلق عداوة بينه وبين السلاطين الذين كان يعيش بقربهم وفي قلب مجالسهم ، ابتداء من الشاه محمد الاعظم بافغانستان ومرورا بشاه ايران ومن ثم خديوية مصر وانتهاءا بسلاطين الاستانه حيث الخلافة العثمانيه ..
ما يهمني من تلك الاحداث هي حادثة واحده ساتناول ذكرها لانها تخدم وتفيد ما اود الحديث عنه وهي حادثة طرده من مصر ..
احتفي الخديوي اسماعيل جدا بالشيخ جمال الدين الافغاني وقربه منه ومن مجالسه واجزل له العطاء ووفر له كل اسباب الراحه وجعله يتفرغ للدعوة والعلم ولم يكن يخشي سطوته وكثرة الحشود حوله بسبب ان الخديوي اسماعيل كان في ذلك الوقت في قمة مجده ولم يكن احدا بقادرا علي هزه او المساس به ، ولما تبدل الحال تماما عندما تولي الامر الخديوي توفيق وذلك يعود الي ان الخديوي توفيق استجاب الي نصيحة البريطانين بأبعاد جمال الدين الافغاني من مصر حتي لا يسبب له المتاعب بسبب دعوته التي اصبحت تشكل هاجسا لدي البريطانين والسلطات المصريه في نفس الوقت ، اضافة الي المؤامرات التي تم تدبيرها من قبل المقربين من الخديوي الذين خشوا علي مكانتهم بسببه ، تم اعتقال جمال الدين الافغاني وابعاده من مصر وترحيله الي الهند واثناء تواجده هناك قامت الثورة العرابيه وتمت هزيمتها واحتلال مصر وابعاد قياداتها بمن فيهم الشيخ محمد عبده ..
عاد جمال الدين الافغاني الي اوربا وتحديدا الي فرنسا واستقر هناك برفقة تلميذه محمد عبده الذي اصبح اكثر تمسكا بافكار استاذه في تلك الفترة بالخصوص ..
تمرد التلميذ ..
كان جمال الدين الافغاني سببا في تحول محمد عبده من التصوف الي الفلسفه وهو الطريق الذي قاد محمد عبده فيما بعد الي التطور فكريا الي درجة التحرر من افكار استاذه نفسها والتمرد عليه ووصل الامر الي درجة المقاطعه فيما بينهم حتي علي مستوي الرد علي الرسائل كما في بعض الروايات ، كان ما يجمع بينهم هو الاتفاق علي ضرورة الاصلاح والتجديد في الدين والنهوض بالمجتمع ، ولكن ظهر الخلاف في الوسيلة التي تحقق تلك الغايه ، ففيما كان الأفغاني يعتقد أن أساس علة المسلمين وضعفهم وتخلفهم عن أمم أوربا الناهضة والمستبدة بقوتها، في تفرقهم وغياب الرابطة التي تجمعهم، كما كان يظن أنه باحياء الخلافة وقيام جامعة تضم الدول الاسلامية تحت الخلافة العثمانية ستحل المشكلة تلقائياً ويكتسب المسلمون القوة والعزة والمنعة ، اضافة الي اقتناعه بأن الاصلاح المجتمعي يجب ان يأتي عبر بوابة السياسة والسلطه ، بتفجير الثورات علي الظلم والاستبداد والقهر ومن ثم يبدأ الاصلاح من اعلي الهرم الي اسفله ، اي عبر استخدام قوة السلطه في انزال الافكار وتطبيقها علي ارض الناس ،اما تلميذه محمد عبده فكان يري ان الوسيلة الانجع الابتعاد اولا عن السياسه وخاصة ابتعاد المصلحين من رجال الدين عنها ومن ثم التفرغ الي التغيير والاصلاح ونشر افكار التجديد الديني من اسفل الي اعلي ، اي من قلب المجتمع ومن بين الناس اولا ، عن طريق اصلاح المناهج التعليميه وهو الامر الذي اجتهد فيه في منهاج الازهر وتطوير واصلاح الدستور وله رؤية مكتوبه لشكل الدستور ، اضافة ايضا الدعوة الي تحرير المراة لاهميتها في تطوير ونهوض المجتمعات ..
هنا تظهر النقطه الرئيسيه التي اريد تناولها وايضاحها عبر هذه النماذج وعن الاسباب التي دعتني لاختيار هذه الشخصيات كنماذج اثق تماما انني عبرها ساكون قادرا علي ايضاح الفرق والتوافق بين فكرة الاسلام السياسي وفكرة الاصلاح المجتمعي والتجديد الديني ، وتوضيح اهمية التفكير النقدي عند تناول اي فكرة مطروحه وايضا توضيح اهمية وتأثير هذه الشخصيات في مسار الفكر الاسلام سياسي عبر تاريخ الامه الاسلاميه الحديث وتأثير استخدام العقل النقدي في رؤيتهم لتلك الافكار وهم اصحاب النفوذ والتأثير الاكبر عليها ، فبالرغم من صدور هذه الافكار من عقليات متشابهة ولكن التطور واستخدام العقل النقدي لدي التلميذ محمد عبده هو الذي احدث الفرق بين الرؤيتين وهو الامر الذي لم يتوفق اليه الاستاذ جمال الدين الافغاني رغم كل ما يملك من صفات شخصيه كانت تؤهله لان يكون اول السالكين لهذا الدرب ، ايضا لاثبات صحة وفشل كل من رؤية الاستاذ ورؤية التلميذ عبر التجارب التي خاضتهما كل الرؤيتين عبر القرون عن طريق اساتذة هم تلاميذ لفكر الافغاني ، وتلاميذ متمردون علي اساتذهم بنفس نهج التلميذ الاستاذ محمد عبده ..