بقلم : محمود الشين

      بمثلما فعل الرئيس الراحل جعفر محمد نميري في رفاق سلاحه من أعضاء مجلس ثورة مايو ، عشية حله للمجلس ووضع عضويته في (توابيت) المتحف القومي – على قول الرائد زين العابدين محمد أحمد – فإن الرئيس المعزول عمر البشير قام بذات الخطوة تحت تأثير الأب الروحي للتنظيم الإسلامي الدكتور حسن الترابي.

   ذهب الترابي في بادئ الأمر إلى سجن كوبر حبيساً بغرض التمويه على هوية الإنقلابيين من العسكر وخدع بذلك الغرب وحتى جارتنا الشمالية التي قالت يومئذ دون تردد : (دول أولادنا) ، وما درت بمكر (أخوان السودان) الذين رفضوا من اليوم الأول أن تكون القاهرة هي مرجعيتهم الفكرية ولو أنهم نهلوا من معين الأزهر وتسلحوا بأفكار سيد قطب وحسن البنا – الذي وضع لهم معالم الطريق.

      لقد خدعت مصر من الإبن العاق وشربت مخابراتها المقلب الكبير. لقد ظهر حسن الترابي بعد حين ونشط في خلف كواليس النظام
وبين يديه برنامج نظام وشكل الحكم وبذلك وصل أخوان السودان للسلطة قبل مرجعيتهم
في شمال الوادي ، حيث كانت تحت رقابة أجهزة الرئيس المصري حسني مبارك.

    كانت عضوية التيار الإسلامي نشطة مثل خلية نحل ، إذ خرجوا من كل فج لتنفيذ المخطط الكبير والذي إستمر لمدى ثلاثة عقود كاملة ، كان فيها السودان الكبير حقل تجارب للإنقلابيين الجدد. لم يذرفوا دمعة واحدة على الديمقراطية الثالثة ولا على مشاعر الناخبين الذي عُوقبوا بسلاح التنمية والخدمات على الأقل في مناطق الولاء التقليدي للحزبين الكبيرين آنذاك الأمة والإتحادي الديمقراطي.

  خرج الترابي من محبسه يلوح بشارة النصر ، ووجد الجنرال في متاهته يتساءل : (ثم ماذا بعد الإنقلاب على العهد الديمقراطي)؟ لم يملك الرجل برنامج الحكم ، لأن مهمته كانت محددة ، هي تنفيذ المرحلة الأولى – إزاحة حكومة الصادق المهدي عن السلطة وإلى الأبد – لكن للعسكر في حالتنا السودانية طريقتهم لكسب معركة الوقت وترويض (الملكية) كما يسمونهم. وتلك هي نظرتهم المعتادة للمدنيين في كل الحقب وتعاقب الحكومات.

   التاريخ يقول إن التماطل كان السمة الأبرز للمكون العسكري بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٩م في تعاطيه مع الثوار في ساحة إعتصام القيادة
وفي مفاوضاته مع قوي الحرية والتغيير وفي تعامله حتى مع حكومة رئيس الوزراء المستقيل الدكتور عبدالله حمدوك ، والذريعة الأولى هي مهددات الأمن القومي وحماية أرض الوطن.

    غاية ما أنجزه الترابي خلال العشرية الأولى للإنقاذ كما يحلو للأستاذ المحبوب عبدالسلام من بعد إعداد الكادر التنظيمي ، هو العمل على حل مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الذي لم يبق فيه حتى الشوط الأخير إلا رجل واحد هو الفريق بكري حسن صالح ، أحد أكثر المخلصين للرئيس المخلوع عمر البشير ، لأن الفريق عبدالرحيم محمد حسين ، خلع بزته العسكرية مبكراً ، أو بالأحرى أُجبر على ذلك.

      خلت الساحة للبشير بعد فك الإرتباط مع شيخه حسن الترابي فيما عرفت بالمفاصلة الشهيرة في العام ١٩٩٩م ، وبذلك تخلص الرجل من أهم عقبتين – هما المرجعية الفكرية ومجلس قيادة الثورة – وتلك تجربة نميري خلال سنوات مايو بالكربون. فإذا كان النميري قد سمع عبارة : (عايد عايد يا نميري) بعد فشل إنقلاب هاشم العطا في العام ١٩٧١م ، فإن أنصار الإنقاذ هتفوا للمعزول (سير سير يا بشير).. إن عالمنا ملئ بصناع الدكتاتوريات.

     يروي الرائد زين العابدين محمد أحمد في مذكراته التي أشرنا إليها عن نميري بعد إعلان فوزه في الإستفتاء على رئاسة الجمهورية قائلاً : (منذ لحظة أداء القسم إلتف ذوو المصالح والمتملقون والمنافقون حول جعفر نميري وبدأوا بصبر وأناة وبما يتمتعون به من واسع الحيل في إبعاده عنٌا. أو إبعادنا عنه. وعملت الأيدي الخفية على أن يكون نميري محاصراً دائما. وأن يكون الوصول إليه صعباً) .

    ويضيف الرائد زين العابدين : (وأصبحت مكاتبه في القصر ومجلس الوزراء وقاعة الصداقة وفي الإتحاد الإشتراكي مثل الأبراج العاجية. أما بيته فقد تحول إلى ثكنة عسكرية). التاريخ يعيد نفسه بالنظر إلى حالة عمر البشير ، ومعظم كوادر الإنقاذ رضعت من أثداء مايو ونالت حظها من مكر ودهاء السدنة ، إلا أن الجيل الراكب رأس وضع نهاية لحكم البشير وبدأت مرحلة تخلق جديدة في سودان الثورة.