بقلم : محمود الشين
التاريخ في الغالب يعيد نفسه في مسيرة حياة الأمم والشعوب. وثورة ديسمبر المجيدة واحدة من تلك التطورات التي إرتبطت بما سبقها من أحداث الماضي ، لو أن سر نجاح الثوار هو إستخدامهم الواعي لتكنولوجيا المعلومات والإتصالات على نحو ما ذكرناه من قبل.
يقول التاريخ إن ونستون تشرشل صاحب الكتاب الشهير(حرب النهر) – توسل اللورد كتشنر السماح له بمرافقة حملة إنقاذ الجنرال غردون باشا المحاصر من قبل دراويش المهدية. وما أن قُوبل طلبه بالرفض لدواعي صغر سنه وقتذاك – أخفي نفسه وسط الجنود ، ولم يظهر لكتشنر إلا على مشارف جبال كرري ضمن فرقة الخيالة شمالي أم بادرمان.
إنه الأمر الواقع بالنسبة لقائد الحملة اللورد كتشنر ، وهو وجود قاصر مغامر بين جنوده في حملة هي الأكبر من نوعها ، تحركها بريطانيا لإحدي مستعمراتها في قلب أفريقيا أرض العجائب. وتلك الحملة هي كذلك نتاج لتحريض من كتاب آخر إسمه (السيف والنار في السودان) – كتبه سلاطين باشا وهو نمساوي الأصل عمل في خدمة الإدارة البريطانية في كل من جبال النوبة ودارفور ، حيث أعتقل هناك وأُلحق بالمهدي في قدير.
كان تشرشل مراسلاً حربياً ، ينقل أخبار الحرب وسير المعارك إلى صحيفة الغارديان البريطانية. لقد قتل غردون ووصلت حملة إنقاذه بعد فوات الأوان ، غير أن (مكسيم) الغزاة حصد أرواح الآلاف من الوطنيين في معركة الكرامة. تشرشل الذي أصبح لاحقاً رئيساً لوزراء بريطانيا – كتب سفره القيم (حرب النهر) ونال به جائزة نوبل للآداب في العام ١٩٥٣م وهو توثيق رائع لأحداث تلك الفترة.
أهم ما ذكره تشرشل هو مقولته الشهيرة (لقد هُزمت المهدية بالسكة حديد) ، وهو الخط الذي نقل الآليات والمعدات الحربية للقوات البريطانية في سعيها لإنقاذ حياة واحد من أهم جنرالات الأمبراطورية العظمي. وبذات القدر فقد هُزمت الإنقاذ بتكنولوجيا المعلومات والإتصالات.
تشرشل الصغير الذي جاء بالصدفة إلى بلادنا ، كتب تأريخنا على طريقته كمستعمر ، لكنه والحق يقال فقد أنصف المهديين ، وحكي عن بسالتهم في مواجهة خطوط النار. وهو ما يفعله اليوم ثوار ديسمبر الذين كانوا ومازالوا يواجهون الرصاص بالهتاف والأناشيد.. هناك من يكتب التاريخ ومن يصنعه وبين هذا وذاك تدور رحي الأيام.
لقد أخفق نظام الإنقاذ كلياً في السيطرة على الثوار ، وهم بعد الشباب الذين وُلدوا خلال سنوات حكمه التي إمتدت إلى (٣٠) عاماً ، ولم تفلح سبل مغازلة الجيل الراكب رأس بالحديث عن مشروعات لإستقرار الشباب أو سقوفات تمويل أصغر من المصارف لبعض الأفكار الشبابية في ظل تعقيدات كبيرة تواجه إقتصادنا الوطني.
معظم هؤلاء الشباب هم في سن ونستون تشرشل وبما لهم من طموحات وأشواق مغامرة ، ينشدون كتابة التاريخ ، وقد أوفوا بما وعدوا به (تسقط بس) وهو ما حدث بالفعل في أبريل٢٠١٩م ، لكن
لا تزال هنالك تحديات للثورة والثوار مستمرة لإنجاز الثلاثية الكبرى (حرية ، سلام وعدالة).
كانت الإنتقادات التي وجهها بعض قادة النظام للشباب الثائر – تبدو مستفزة ولم يتعلم الإخوان من تجارب الماضي. وتلك إشكالية مقيمة تحدث عنها الدكتور حسن مكي في فاتحة تقديم كتابه (الحركة الإسلامية في السودان) بقوله : (خطاب الحركة الفكري والثقافي على إتساعه ، إلا أنه لم يتسع مستجيباً لخصوصية المجتمع السوداني ، وقضايا الدولة الحديثة ، وشكل الدولة الإسلامية ووظائفها).
فإذا كان الدكتور حسن مكي يتحدث بهدوء عن مخاض الفترة الزمنية من (١٩٦٩- ١٩٨٥م) ، فما بال تجربة الإسلاميين في الحكم (٨٩ – ٢٠١٩م) ، ولم يزل خطابهم الفكري والثقافي يعاني من معضلة التواصل مع الجيل الجديد وهو جيل رفع في مواجهتهم شعار (الثورة خيار الشعب).