الصادق علي حسن المحامي يكتب 

في ظل غياب المشروع الوطني الموحد للدولة السودانية برزت كتل ومجموعات مطلبية وعسكرية شكلت ظواهر، ومن الظواهر التي ادت إلى ضعف الدولة السودانية ، ظاهرة حركة الإسلام السياسي والتي وصلت إلى السلطة وهيمنت على مفاصل الدولة واحتكرت إدارتها وخلخلت أسس الدولة المدنية حتى شارفت الوصول إلى مرحلة الإنهيار ومن نتائجها صناعة حركات مسلحة موالية لتستخدمها في محاربة الحركات المسلحة التي اندلعت في بعض المناطق ومنها نموذج ظاهرة حميدتي والذي يشكل لوحده الآن مركز تأثير عسكري وسياسي على حاضر أوضاع البلاد ومستقبلها.
فمنذ عدة سنوات وقد تعاظم دور ونفوذ حميدتي لدى المخلوع البشير، وبترتيب اشرف عليه الجنرال عوض بن عوف ارسل له المخلوع طائرة خاصة أحضرته من نيالا وعقب الإتفاق بينهما على ما لم يتم نشره وأخفي سره وقتذاك ، حرص حميدتي على الظهور في وسائل الإعلام لتأكيد دوره المنتظر بمنظاره وليس بمنظار من جلبوه من نيالا إلى الخرطوم، وفي حوار صحفي مطول بصحيفة الصحافة وقتذاك ظهر حميدتي في الحوار الصحفي المذكور وهو يرتدي الجلباب البلدي ويضع على راسه طاقية ومن دون العمامة على رأسه او الملفحة (الشال) على كتفه وهو أشبه ما يكون برجل الشارع العادي، وتحدث بثقة متناهية عن ظروف وملابسات حضوره إلى الخرطوم وحرص في ذلك الحوار على تذكير البشير وإشهاد الرأي العام بانه في السابق خالف البشير ما وعده به ولم يفصح عن مكنون ذلك الوعد ، وكرر عدة مرات ان مجيئه إلى الخرطوم بعد ان وجد ضمانات بالإلتزام من البشير شخصيا، كما وكان ذلك الحوار الصحفي بمثابة إبلاغ للرأي العام عن نفسه، ووقتذاك لم يكن حميدتي بالأهمية الكبرى حتى يتم التركيز على أقواله وتصريحاته كما الحال الآن ، لقد غاص حميدتي في اغوار المخلوع كما لم يفعل غيره واكتشف انه كان يبحث لنفسه عن الحماية فقام بإملاء شروطه على المخلوع ووضع نفسه في خدمته مؤقتا كما وأحتفظ لنفسه بالإستقلال الذي يخوله الإنفراد بالقرار على قواته وقد أكتشف بان البشير لا يثق في الأجهزة النظامية الرسمية لتؤدي له ما يريد من حماية وهنالك من يتنافسون حوله لوراثته مثل تلك المنافسة غير المكتومة بين علي عثمان طه ونافع علي نافع ، وقد كان حميدتي بالذكاء الفطري الذي مكنه من التمدد ثم التأسيس لجيشه الخاص به، وبموجب قانون خاص اصدره له برلمان البشير بمسمى قوات الدعم السريع، صار لحميدتي جيشه الخاص المنظم وشخصيته المستقلة، وحينما هبت ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨م وتضعضعت قبضة البشير على السلطة، بحث عنه البشير ولم يجده، وحينما علم بانه قد تخلى عنه استسلم من دون مقاومة، وبعد ان شارك حميدتي في عزل البشير اعتذر عن عضوية المجلس العسكري الذي تم تشكيله بواسطة شركائه في الإنقلاب على البشير وعقب فض الإعتصام وفي ذكاء متناهي أستخدم وأقعة الفض لتعزيز دوره وقد كان وحينما أُفرغت الثورة من محتواها بالوثيقة الدستورية التي خالفت قواعد تأسيس مشروع الدولة السودانية وضع حميدتي يده على منصب غير موجود في الوثيقة الدستورية باسم النائب (الأول) والغريب في الأمر لا يوجد في الوثيقة الدستورية أصلا نائبا أو نواب لرئيس مجلس السيادة حتى يتم ترتيب الأسبقية بينهم، ثم ظهرت الأصابع الخارجية الإقليمية التي تدير البلاد وعلى رأسها اصابع دول الإمارات والسعودية ومصر وقد أظهرتها بوضوح التباين في المواقف في تصريف إدارة شؤون السودان بالريموت كنترول والأحزاب مشغولة بالبحث في مقاعد السلطة وشراكة عناصر اللجنة الأمنية للنظام البائد، فأنهزمت شعارات الثورة ، وظلت البندقية العابرة والمستأجرة في حرب اليمن وصمة عار في جبين حكومة د حمدوك التي تكونت كما وتم تقنينها وتدافع آلاف الشباب للإلتحاق بها والإرتزاق ، هذه هي من الحقائق المُولمة والبلاد تشهد حاليا الصراعات الخفية على النفوذ بين مراكز القوى العسكرية وعناصر اللجنة الأمنية للنظام البائد، وبها العديد من الجيوش، جيش البرهان الموروث من النظام البائد وقد ذهب البشير وتركه كما ظل على حاله وقد قام المخلوع بتغيير نظمه وهياكله وابعد منه خيرة ضباطه العظام ، وجيش الدعم السريع الذي يتحكم فيه حميدتي وشقيقه عبد الرحيم ، كما هنالك ثلاثة جيوش لثلاثة من أعضاء مجلس السيادة وهم يقودون حركات مسلحة، ولوزير المالية الذي يقود حركة مسلحة جيشه، كما ولوزير الثروه الحيوانية تحت قيادة رئيسه رئيس التحالف السوداني والذي يتولى منصب والي ولاية غرب دارفور جيشه، وجيش لوزير المعادن تحت قيادة رئيسه حاكم إقليم دارفور، وجيش تحت قيادة ووالي ولاية شمال دارفور والذي يقود حركة مسلحة ثم تمازج وما ادراك ما تمازج.
الدعم السريع :
الباحث في تجربة حميدتي وولوجه لميدان العمل السياسي من خلال المليشيا الذي كونه باسم الجندي المظلوم، يجد ان كل الدلائل تشير بان حميدتي يمتاز بالحنكة والدهاء والذكاء المتقدم على قيادات التنظيمات السياسية والحركات المسلحة بل بعضها صارت تعمل في خدمته وقد احاط نفسه بمظاهر السلطة والقوة ووظف التباينات المجتمعية والتناقضات السياسية، وصار يملك قوة مقاربة للجيش الذي يقوده البرهان وقد يتفوق عليه في بعض الحالات، له قوة ضاربة تدين له بالولاء الشخصي ومنتشرة في كل انحاء البلاد، وقد برزت طموحاته لتولي كرسي منصب الرجل الأول والذي يشغله البرهان، هذا الكرسي الذي لا يسع الجلوس فيه لشخصين وكل واحد منهما الآن يكيد للأخر ويتمرس بالأستقطاب الجهوي والاجتماعي ويستخدمان الوكلاء والمأجورين في ظل الأوضاع الأستثنائية السائدة وسيادة ثقافة منطق القوة، حميدتي صار يمتلك الأموال ومناجم الذهب والجيش الخاص ويتفوق في ذلك على غريمه ورئيسه الشكلي في البرتوكلات البرهان.
الفوضى القادمة :
يستبعد البعض حدوث الفوضى ولكن سيناريو الفوضى في الواقع المعاش هو الأقرب في ظل المشهد السياسي الحالي، الأحزاب لم تستفد من الدروس والتجارب التي مرت ولا زالت متنازعة فيما بينها ولا توجد مراكز موحدة لإدارة الدولة، صحيح البرهان يصدر قرارات التعيين والعزل في المواقع العامةولكن في واقع الحال فقدت الدولة اساسها المتين ولم يعد المواطن يعبأ او يكترث بل تجاوز شأن النظام الحاكم وصار وكانه في جزيرة معزولة عن من يحكمه وكيف يحكمه وفقدت الأجهزة الحاكمة اعتباريتها لدى المواطن العادي الذي بات يتصرف وكأنه لا توجد إدارة تدير الدولة تستحق منه الإحترام أو يخشى منها على الأقل، وقد صارت الرتب العسكرية في الولايات المأزومة بالحرب تباع في الأسواق كالسلع كما صارت مقومات تكوين الحركات المسلحة عبارة عن تجميع لعدة أشخاص وهم يرتدون الأزياء العسكرية ويحملون البنادق ويغطون وجوههم بالكدمول ثم يعلنون عن انفسهم وعن حركتهم المسلحة من خلال الوسائط كما ويمكنهم بعد ذلك إعلان مطالبهم في المشاركة ونصيبهم في السلطة والثروة، وقد غابت سيادة الدولة مثلما تم تغييب القانون، فظهرت التكوينات القبلية من تحت غطاء رمزية المطالب الجهوية وصارت البلاد قاب قوسين او ادني من الفوضى، قائد قوات الدعم السريع يُعلن بانه لا يُمانع في دمج جيشه في جيش وأحد وتسارع التنظيمات السياسية بالمباركة وكأن ذلك الإعلان يستحق الإحتفاء وفي قواعد تأسيس الدولة السودانية الجيش واحد ومهامه محصورة في حماية البلاد وليس في ممارسة السياسة وشؤون الحكم .
ونواصل.