هيمنة الكيزان وسقوط مشروع الهامش والتحرير العريض

 

الخرطوم – عبدالرحمن العاجب

المشاريع السياسية لحركات الكفاح المسلح الدارفورية كانت مشاريع طموحة، وكانت تلك الحركات لها تصور متكامل لإدارة البلد وشكل الحكومة وعلاقة الدولة بالمواطنين والحقوق والواجبات التي يجب أن تؤمنها الدولة لهم، ولكن سرعان ما سقطت تلك المشاريع السياسية بمجرد دخول القبيلة في حلبة الصراع ومحاولة استخدامها كرافعة سياسية، وظهر ذلك الأمر جلياً في مؤتمر حسكنيتة الذي بسببه انقسمت حركة تحرير السودان إلى حركتين، ومنذ ذلك الحين بدأ مشروع التحرير العريض في السقوط رويداً رويدا.

ومعلوم للجميع أن حركة تحرير السودان بقيادة مناوي تتبنى مشروع التحرير العريض وشعارات ( الحرية – الوحدة – السلام – العدالة – الديمقراطية) وتدعو الحركة إلى بناء سودان جديد حر ديمقراطي يسع الجميع، فيما لا يختلف مشروع حركة العدل والمساواة كثيرا عن مشروع التحرير وتتبنى حركة العدل مشروع الهامش والمظالم التاريخية ونصرة أهل الهامش واسترداد حقوقهم وتحقيق التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية.

بينما يمكن وصف حركة تجمع قوى التحرير برئاسة الطاهر حجر بأنها حركة بلا هوية أو رؤية سياسية وذلك لأنها تكونت من منشقين جاءوا من عدة حركات لايجمع بينهم مشروع سياسي موحد إلا التحالف الجبهوي في حده الأدنى، ولكنها أيضا تتبنى نفس المشاريع السياسية التي تبنتها حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة.

ويؤكد الواقع الماثل أن حركات الكفاح المسلح الدارفورية تنكرت لمبادئها الاساسية التي قامت من أجلها، وأهم هذه المبادئ نصرة المهمشين والمظلومين، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وفيما يبدو أن هذه هي الشعارات الرئيسية التي دفعت ملايين السودانيين بشكل عام والدارفوريين بشكل خاص للإنضمام لها أو الإلتفاف حولها أو تأييدها أو التعاطف معها والإنحياز لصفها بصور شتى بحكم أن الغالبية الساحقة من السودانيين مهمشين، وكان شعب دارفور يتوقع أن تفتح تلك الحركات نافذة جديدة للمهمشين في سودان جديد تسوده المساواة والعدالة الاجتماعية، ولكن ذهبت تلك الأحلام والأمنيات أدراج الرياح.

هيمنة الكيزان على مفاصل الحركات المسلحة الدارفورية أصبح واقع يمشي بين الناس ولا يستطيع أن ينكره أحد، وعندما نتحدث عن الكيزان نعلم جيداً أن الكوز سلوك وليس انتماء سياسي أو عقائدي أو فكري أو ديني فالكوزنة هي سلوك، والكوز هو ذلك الشخص الانتهازي المتستر بالدين والقبيلة لظلم الاخرين وأكل أموالهم بغير وجه حق، والكوز هو من يستغل الدين والقبيلة لاغراض الدنيا ومنها الوصول إلى الحكم ليس لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، ولكن لجمع الثروات والاستمتاع بالسلطة والمنصب.

وبعد توقيع اتفاقية جوبا للسلام في الثالث من أكتوبر 202‪0م دخلت حركات الكفاح المسلح الدارفورية في مرحلة جديدة من عمر الدولة السودانية، ولكنها سرعان ما تنكّرت لمبادئها الأساسية بمجرد تنفيذ بند المشاركة السياسية في الجهاز التنفيذي ومجلس السيادة وتنصيب مني أركو مناوي حاكماً لإقليم دارفور في 10 أغسطس 2021م ومنذ تعيين مناوي حاكما للإقليم ظل الواقع على الأرض في حالة تراجع للأسوأ.

وإذا عقدنا مقارنة بين الأوضاع في إقليم دارفور قبل تعيين مناوي وبعد تعيينه، فإننا نجد أن الأوضاع قبل تعيين مناوي كانت أفضل بكثير، وبعد تعيينه ازدادت وتيرة الانفلات الأمني، وشهدت ولايات دارفور صراعات عنيفة وتفلتات أمنية، كما لم تشهد جميع الولايات تنفيذ مشاريع تنموية وظل الوضع كما هو عليه في الماضي بل إزداد سوء.

ويؤكد الواقع أن حكومة إقليم دارفور والتي لاوجود لها في الواقع أصبحت حكومة الرجل الواحد (حكومة مناوي) هو الذي يعين الموظفين بحسب مزاجه الشخصي، ويذكر أنه قام بإعلان التنافس على وظيفة منصب الأمين العام لحكومة إقليم دارفور، وبعد ان تقدم المتنافسون بطلباتهم وقبل انتهاء فترة التقديم وفرز الطلبات قام في مخالفة صريحة لما أعلنه بنفسه بتعيين الدكتورة توحيدة عبدالرحمن يوسف وهي متخصصة في الغابات في منصب الأمين العام لحكومة الإقليم، وتفيد المتابعات أن هناك عدد من أبناء دارفور الكفاءات تقدموا لهذه الوظيفة، ولكن مناوي بسلوكه الكيزاني أراد أن يأتي بكادر ضعيف للسيطرة عليه وقد كان.

ومضى مناوي إلى أكثر من ذلك عندما قام بتعيين لجنة خبراء إقليم دارفور والتي تتكون من ( 12) عضواً والمدهش أن لجنة الخبراء بها ثلاثة قيادات بارزة من قيادات النظام المدحور وحزبه المقبور (المؤتمر الوطني) ومعظم أعضاء لجنة الخبراء كانوا يعملون مع النظام البائد في مواقع مختلفة.. فكيف للجنة خبراء بهذا الشكل أن تقدم استشارات مفيدة تقود إلى معالجة مشكلات إقليم دارفور وشعبه المكلوم والمغلوب على أمره، وزاد مناوي الطين بلة عندما قام بتعيين (2) من أعضاء لجنة الخبراء في حكومة إقليم دارفور وهم أيضا من الكيزان.

وبالنسبة للبعض فأنه يجب أن يتم حذف إسم تحرير السودان من الحركة ليصبح إسمها حركة مناوي وهو الإسم الحقيقي بحسب الواقع بعد أن أصبحت الحركة بلا مجلس تحرير ثوري وبلا مكتب سياسي وبلا مكتب تنفيذي وأصبحت حركة الرجل الواحد (حركة مناوي) وأصبحت لاتختلف كثيراً عن حزب المؤتمر الوطني المقبور الذي كان يترأسه المخلوع عمر البشير الذي كان يسيطر بشكل كامل على الحكومة والحزب.

وازداد الأمر سوء داخل حركة مناوي بعد أن سيطر عليها إبن أسرته الكوز المعروف نور الدائم طه مساعد مناوي للشؤون الإعلامية والذي أصبح الرجل الثاني داخل الحركة بعد الرئيس، ولعب طه دور كبير في سيطرة الكيزان على الحركة والمؤسسات التنفيذية التي تديرها الحركة عندما ساهم مع وزير المعادن محمد بشير أبو نمو والذي لم نتأكد من حقيقة انتمائه للحركة الإسلامية حتى الان، ساهم طه في تعيين الكوز المعروف بجنوب دارفور وكادر الأمن الشعبي سليمان أحمد حامد الشهير ب(كنج) مديراً لشركة سودامين التابعة لوزارة المعادن، وتعيين الكوز وكادر الامن الشعبي أحمد هارون التوم مديراً تنفيذيا لمكتب وزير المعادن، ويذكر أن الرجلين ليس لهما علاقة بمؤسسات الحركة وعملية تعيينهم تمت بصلة القرابة.

وبعد ثورة ديسمبر المجيدة وضعت الحركات الدارفورية يدها على ايدي من سفكوا دماء الشعب السوداني واغتصبوا حرائره وحرقوا القرى بدارفور وجبال النوبة وكردفان وبإعتصام القيادة العامة للجيش السوداني، وابتعدت الحركات عن خطها الثوري في التغيير الجذري للدولة، وأصبحت تساوم على مبادئها، ولم يعد هنالك فرق بينها وبين الكيزان الذين افنينا العمر للنضال ضدهم.

بلغ تنكر حركتي (تحرير السودان والعدل والمساواة) لمبادئها مداه في التحالف مع جنرالات البشير ومليشياتهم في خطوة اقل ما يمكن أن يقال عنها انها خيانة لدماء شهداء التحرير والهامش، وظلت تلك الحركات تتنكر بشكل مستمر لمبادئها، فبينما يتحدث قادتها عن التحول الديمقراطي والدولة المدنية والسودان الجديد نجدهم في الضفة الأخرى يتمسكون بدولة السودان القديم واللجنة الأمنية (جنرالات البشير).

وظلت تلك الحركات في حالة تناقض مستمر وفي الوقت الذي تتحدث فيه عن إزالة التهميش، نجدها تتحالف مع من تسببوا في التهميش، ولا يستقيم عقلاً التمسك بالدولة القديمة وفي ذات الوقت الحديث عن إزالة التهميش، ومعلوم أنه لا يمكن انهاء التهميش ما لم يتم تفكيك الدولة القائمة واقتلاعها من جذورها وبناء دولة جديدة على أسس جديدة يتفق حولها جميع السودانيين.

َولايخفى على أحد دعم حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة لانقلاب 25 أكتوبر، ومواقف وكلاء الانقلاب (مناوي ونور الدائم طه وجبريل إبراهيم وسليمان صندل وأردول) المعلنة ضد حكومة الفترة الانتقالية ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك، ووقوفهم المعلن ضد لجنه إزالة التمكين، والمطالبة بشكل معلن بالإنقلاب.

موقف قيادات الحركات الداعم للمكون العسكري في الحكومة الانتقالية، يمثل الوقوف ضد مشروع الهامش والتحرير العريض، والقوى الداعية للتغيير، ويمثل وقوف ضد التحول المدني الديمقراطي، ويمثل خيانة لدماء شهداء الثورة السودانية الذين قدموا ارواحهم من اجل العزة و الكرامة والحرية للشعب السوداني.

الشعب السوداني كان يتوقع من الحركات المسلحة الدارفورية التمسك بطرحها الأساسي في بناء دولة جديدة وتنفيذ مشروع السودان الجديد الذي يسع جميع السودانيين، وكان يجب على تلك الحركات أن تسعى بشكل جاد للتغيير الجذري، وتعمل مع السودانيين وأحزابهم السياسية على بناء دولة جديدة يسود فيها حكم القانون ويتساوى فيها الجميع، ولكنها اختارت أن تورث النظام المقبور وتمضي في خطه وتتبنى سلوكه الكيزاني المعلوم للجميع.

وكان للشعب السوداني آمال عراض وأشواق في أن تكون الحركات المسلحة الدارفورية هي رأس الرمح في التغيير الجذري وبناء سودان الحرية والسلام والعدالة الذى حلمت به الاجيال بعد ثورة ديسمبر المجيدة، سودان تسوده المحبة وتظلله العدالة الإجتماعية ويعيش سكانه في سلام مع بعضهم ومع الآخرين، وكنتيجة للممارسات الكيزانية التي أصبحت سمة أساسية للحركات المسلحة الدارفورية من الطبيعي ان تنقطع العلاقة بين أهل الهامش والحركات، ولم يعد المهمشين أنفسهم ينظرون للحركات بأنها تجسد آمالهم في السودان الجديد الذي كانوا يحلموا به.

وبعد المتاهة التي دخلت فيها حركات الكفاح المسلح الدارفورية وادمان الفشل الذي لازمها لفترات طويلة يمكن القول إن الإصلاح السياسي لتلك الحركات خرج من كونه فرض كفاية ليصبح فرض عين عليها.. وسيبقى أمام تلك الحركات خياران أما ان تبدأ وبشكل عاجل في تحقيق مشروع إصلاح سياسي جاد يمكنها من مواكبة المتغيرات السياسية والاجتماعية أو تذهب إلى مذبلة التاريخ غير مأسوفا عليها.