شمس الدين ضوالبيت

الأصل في “الدولة الحديثة” أن الحقوق والواجبات فيها تتأسس على “المواطنة”. هذا هو الطبيعي والسائد في كل دول العالم اليوم. “الدولة الدينية” لا تتأسس الحقوق والواجبات فيها على المواطنة وإنما على “العقيدة”، تضع الرجال والنساء وغير المؤمنين بها وقادة المجتمع الديني كل في مرتبة معينة بحسب ما تحدده تلك “العقيدة”.

فإذا كانت تلك الدولة الدينية تنتمي إلى نطاق المجتمعات المسلمة، فإن السائد، -وليس بالضرورة الصحيح- هو أن حزمة أحكام “الشريعة” هي التي تنظم وتحدد إطار وتراتبيات الحقوق والواجبات. و”أحكام الشريعة”، كما هو معلوم، هي قواعد وإجراءات قانونية ملزمة للمؤمنين، أنزلها الله سبحانه وتعالى ضمن البعثة المحمدية لترتيب الحقوق والواجبات، كما سبقت الإشارة، ولتنظيم المعاملات ومحاربة أفات مجتمع الجزيرة العربية قبل أكثر من 1400 عام. لذلك فهي تنقسم إلى أحكام فرائض (عبادات)؛ وأحكام معاملات (تجارية وغيرها)؛ وأحكام أحوال شخصية، وأحكام عقوبات (الحدود)، للوفاء بهذه المهام ..

هذه الأخيرة –أحكام العقوبات- كان هدفها بالطبع محاربة الجريمة في ذلك المجتمع البدوي. والجرائم التي كانت سائدة، كما في كل مجتمع هي الأفعال التي تنتهك كرامة الناس أو تعتدي على حياتهم وسلامتهم البدنية أو سلامة نسلهم وأسرهم أو تصادر ممتلكاتهم وحقوقهم المادية والمعنوية. عبرت الشريعة عن هذه الأهداف بـ(حفظ الدين؛ حفظ النفس؛ حفظ العقل؛ حفظ النسل؛ وحفظ المال).

نعلم اليوم أن طبيعة الجرائم وأشكالها تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر وعهد إلى آخر، حتى في المجتمع الواحد. وطبيعي لذلك ويترتب عليه أن تختلف العقوبات المحددة للتصدي لتلك الجرائم ومحاربتها. تتطور أساليب المجتمعات في التصدي للجريمة بتقدم المجتمعات وتقدم العلوم والتكنولوجياً. تتطور في هذا السياق مفاهيم العدالة نفسها. العقوبة التي كانت تناسب الجرم في مجتمع وعهد لا تعود كذلك في مجتمع وعهد آخر. ماكان ضرورياً لردع المجرمين في مجتمع وعصر معين، لا يعود ضرورياً، بل يصبح ضاراً في زمن لاحق.. “الحركة” من “تطور” للطبيعيات و”تقدم” للمجتمعات الإنسانية هي السمة الجوهرية للكون الذي نحن جزء منه. هذه اليوم مسلمات بديهية، لا تتطلب برهانا، فقد برهن عليها التاريخ من آلاف الزوايا..

أحكام العقوبات، بجانب أحكام الشريعة الأخرى أدت دورها بامتياز في المجتمع الذي أنزلت عليه وفي الزمن الذي أنزلت فيه. الدليل على ذلك أنها نقلت ذلك المجتمع البدوي من هامش الاجتماع البشري إلى قلب الحضارة الإنسانية، وفي وقت وجيز نسبياً.

الإصرار على الزج بهذه “الأحكام الحدية”، خارج زمانها بقريب من ألف وخمسمائة عام، في مسودة الدستور الانتقالي، من اللجنة التسييرية للمحامين السودانيين، بعد ثورة ديسمبر، لأمر مثير للعجب والحيرة. فئة المحامين والقانونيين عموماً، أكثر من غيرها، يُفترض أنها حاملة وحامية لمبادئ العدالة الجنائية الحديثة، ويُفترض فيها أنها تعلم أكثر من غيرها أن هذه العقوبات الحدية، في شدتها وقسوتها، منافية لحقوق الإنسان، ويحظرها القانون الدولي لحقوق الإنسان، وأنها لم تعد بأي صورة معادلة للجرم المرتكب، لأن بدن الإنسان لم يعد يُحسب بثمن، في مبادئ العدالة الجنائية الحديثة، وأن ورودها في الوثيقة الدستورية لعام 2019، كان واحدا من الأخطاء الكثيرة في تلك الوثيقة، التي أورثها لفظة “معيبة”و التي تخلصت مسودة الدستور الانتقالي من كثير منها..

إضافة الحدود للدستور الانتقالي هو ارتداد صريح عن ثورة ديسمبر. ثورة ديسمبر في أصلها لم تكن ضد الأشخاص الذين حكموا السودان لثلاثين سنة في عهد ’الانقاذ‘. أولئك، مهما كان ظننا في سوءهم، لم يكن هدفهم، عندما استولوا على الحكم، إحداث هذا الضرر البالغ بالدولة والمجتمع. الدمار الذي أحدثوه والفساد الذي ولغوا فيه والحروب التي أشعلوها هي نتاج للسياسات والبرامج التي تبناها وطبقها تنظيمهم بحسم وصرامة طوال ثلاثين عام. أصل هذه السياسات وجوهرها هو “تطبيق الشريعة السلفية”، بما فيها الحدود، بتفاصيلها المذكورة أعلاه، وبفهم يغيب عنه تماماً مبدأئ “التطور” و”التقدم”. ونعلم اليوم أنه متى غابت هاتان “المسلّمتان”، عن مذهب أو فكر أو فلسفة حكم، فالجحيم لا محالة هو المأوى..

صحيح جداً أن النار من مستصغر الشرر. لذلك تكفي كلمتان يبدو أنهما عرضيتان في مسودة الدستور، مثل: (إلا حداً أو قصاصاً [الباب الثالث – تقييد عقوبة الإعدام])، لنسف وثيقة الحقوق وبقية الدستور.

“الشريعة السلفية” هي حزمة واحدة من الأحكام والقوانين، يدعم بعضها بعضا، ويستند بعضها إلى بعض، وسيستدعي بعضها المذكور أينما ذُكر باقيها الغائب المسكوت عنه، أينما كان. هذا ما علمه قادة الأخوان المسلمين السودانيين وقالوه وكتبوه صراحة كسبب لدعمهم لقوانين “الشريعة” الأربعة أو الخمسة التي أدخلها نميري، وأعلن بها “خلافته الإسلامية” عام 1983، في ما عُرف بقوانين سبتمبر.لأنهم علموا أن الباب فُتح واسعاً والطريق أصبح سالكاً نحو “الدولة الدينية”.
لقد أكد التاريخ بثمن باهظ أنهم كانوا محقين في ما ذهبوا إليه.. في الواقع قامت كل بناية “الدولة الدينية” لاحقاً على تلك “الأحجار الأربعة” التي وضعها نميري لأغراض أخرى..

واليوم حجران؛ (حداً أو قصاصاً)، يفيان بالغرض أيضاً!