تحقيق: سلاميديا
إن جرائم الفساد المرتبطة بالأراضي ضاربة بجذورها في الواقع السوداني ردح من الزمان؛ ملقية بظلالها على العلاقات البينية بين المجتمعات المدنية والمجموعات الإثنية مسببة صراعات اتسم بعضها بالعنف المفرط. وقد استشرى هذا الفساد ليشمل جميع مناطق السودان بنسب متفاوتة، وصل بعضها للمحاكم وأخر لم تصل للتعقيدات التي صاحبتها. إلا أن كثير من جرائم الفساد تلك، أخذت الطابع المؤسسي أو الدستوري، لإرتباطه بالقوانين التي يصفها الكثيرون بأنها غير منصفة. منذ زمن ليس بالقريب ظل يتردد على مرئ ومسمع الناس في أوقات متفرقة، موضوع الفساد في الأراضي بدارفور، ولا سيما إبان الحرب الحالية في السودان وبخاصة مدينة نيالا ــــ ولاية جنوب دارفور غربي السودان.
وصل فساد الأراضي بمدينة نيالا إلى تزوير عقودات المنازل و التعدي على الساحات العامة وتحويلها الى اراضي سكنية او أسواق، بغرض تحقيق مكاسب عامة في ظاهرها وخاصة في باطنها زيادة الإيرادات، بحسب تبرير السلطات المعنية بالأراضي في المدينة. ومع أيلولة الأوضاع في نيالا لسطوة قوات الدعم السريع متمثلة في الإدارة المدنية، برز واقع جديد بصدور قرار والي جنوب دارفور المكلف، بشير مرسال حسب الله، بتجميد عمل وزارة البنية التحتية والتنمية العمرانية، نسبة لاتساع دائرة تخطيط الساحات العامة والميادين وتزوير عقودات منازل المواطنين الذين هجروها بفعل الحرب.
لقد تم رصد عشرات الحالات من تحويل الساحات العامة بالمدينة إلى منازل سكنية؛ فضلا عن تزوير عقودات الملكية. وبعد تقصى دقيق حول أوضاع الأراضي بالمدينة، ظهر بوضوح أن هنالك تعديلات واسعة على الأراضي خاصة جنوب المدينة.
معلومات وحقائق
هنالك عدد من المساحات العامة أو المخصصة للأغراض العامة والأندية الشبابية أو الميادين او الاحتياطي الحكومي، تم تخطيطها وتوزيعها في الفترة من ديسمبر من العام 2023م، عقب بسط قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة نيالا وحتى هذه اللحظة. وهنا نستدل بقرار الوالي، بشير مرسال، القاضي بتجميد عمل وزارة التخطيط العمراني؛ بالإضافة إلى حل لجنة التخطيط المعنية بتخطيط الأراضي وتوزيعها. بحسب مصدرين متطابقين تحدثا لــ (سلاميديا) ـــــــ طلبا عدم الإفصاح عن هويتهما ــــــ أنه بعد أيام قلائل من قرار التجميد، قام إثنين من الضباط التابعين لقوات الدعم السريع برتبة النقيب والرائد ، بالضغط على نائب الوالي، صلاح الدين أحمد الموج، لتكوين لجنة جديدة. وبعد تكوينها أدت اللجنة الجديدة القسم أمام الضابطين المذكورين (النقيب والرائد)؛ ووقتئذٍ كان على رأس وزارة التخطيط العمراني، الدكتور/ عادل جابر النور. وبمجرد تشكيل الإدارة المدنية بالولاية، تم تعيين وزيراً جديداً لتسيير عمل الأراضي حتى الآن.
التلاعب في الأراضي
لم تكن عمليات الفساد التلاعب بالأراضى جديدة سوى في سائر البلاد بشكل عام أو في دارفور على وجه التحديد؛ غير أنها تفاقمت أثناء الحرب بصورة ملحوظة. فقد انتشرت العقودات المزورة للمنازل السكنية إبان فترة الحرب الحالية، عن طريق بعض السماسرة الذين استغلوا ظروف الحرب وغياب بعض الأسر ونزوحها خارج المدينة. وبتتبع العقودات المزورة والمزدوجة، اتضح أنها يتم استخراجها عبر موظفي الوزارة أنفسهم، وذلك عن طريق الإغراء بالمال من الشخص الراغب في شراء القطعة؛ حيث يوجد سوق للعقودات المزورة يعرف بسوق (البوكو) يقف خلفه موظفين بالأراضي وبعض السماسرة.
وفي هذا الصدد يقول أحد الوسطاء (سمسار) في سوق الأراضي بنيالا لــ (سلاميديا) إن التلاعب في تسجيلات الأراضي في جنوب دارفور زاد بعد سرقة عدد من العقودات تزويرها؛ معدداً أن عمليات التلاعب طالت مربعات (2/ل)، (4/ل)، (5/ل) و(6/ل/غ) بحي الاندلس جنوب مدينة نيالا.
(خريطة قوقل والكروكي أعلاه توضحان مربع (6/ل/غ) حي الاندلس جنوب مدينة نيالا)
وكشف الوسيط، عرض عقودات في السوق بواسطة السماسرة مع إخفاء هوية صاحب المنزل المراد بيعه “يتم الإتفاق ما بين السمسار والمشتري بسعر منخفض لا يقارن بالسعر الحقيقي للموقع، وغالبا ما يظن المشتري بأنه وجد منزل بمبلغ مناسب دون أن يدري وقوعه في فخ التزوير، وبعد التمحيص والتدقيق يجدها مزورة، ثم يبدأ في رحلة البحث عن أصحاب العقد المزور”.
ويقول أحد الشهود لــ (سلاميديا) ـــ نتحفظ على ذكر اسمه لدواعي حمايته، “قاموا بعرض منزلنا بحي المطار شمال المدينة في السوق العقارات بعد تزوير عقد المنزل المسجل بأسم الوالد وعرضة بمبلغ 100 مليون جنيه في بادي الأمر، ثم بمبلغ 60 مليون في المرة الثانية”؛ مشيراً بأن سعر العرض ولا يساوي سعر أرض خالية من المباني في تلك المنطقة . وكشف أنه لولا معرفة المشتري بالوالد اكتملت عملية البيع. ويفيد الشاهد أنهم كشفوا الأمر لدى تواصل المشتري بهم بغرض التأكد من عرضهم المنزل للبيع بإرساله صورة من العقد المزور. وقال أنهم لا يزالون يحققون لمعرفة من قام بعملية تزوير مستندات منزلهم.
ويوضح الوسيط، أن الكشف عن العقود المزورة قبل الحرب، يتم من خلال الرقم المتسلسل للعقد أو شهادة البحث، أما الآن بعد تعطل المحكمة وتسجيلات الأراضي؛ أصبحت هناك صعوبة في التفرقة بين العقد المزور والعقد السليم، الا بالانتباه لبعض الجزئيات الصغيرة؛ مشيراً إلى وجود ثلاثة نسخ لكل عقد، نسخة لدى المحكمة وثانية في أرشيف الأراضي والثالثة بحوزة المواطن والمستفيد. ويبيّن أن التزوير يتم في حالة حصول أي شخص على نسخة من النسخ الثلاثة، وبالتالي تعرض قطعة الأرض في السوق ويتم بيعها بواسطة محامي بناء على ضوء المستندات أو التوكيل الموجود.
مساحات تحولت إلى منازل سكنية
امتدت أيادي العبث والتلاعب بالاراضي في مدينة نيالا الى الميادين والساحات العامة والمساحات المخصصة للتعويضات. فلم تسلم الساحات العامة والميادين في مربعات (10 و 15ح) في حي الدورة، (13أ) في حي السلام من التصرف غير المشروع؛ بالإضافة إلى مربع (15ي) في الميناء البري المخصص لتعويضات حي الفتيحاب، إلى جانب مربع (6 د) في حي كرري جوار سباق الخيل، حيث تم توزيعها. وبحسب إفادة أحد الشخصيات البارزة بحي الاندلس مربع (6/ ل) لــ (سلاميديا) إن إدارة الأراضي أقدمت على تخطيط مساحة تقدر 1800 متر مربع، بالنمرة 274، كانت مخصصة لمركز شباب الأندلس وتحويلها الى منازل سكنية؛ وكشف عن شروعهم في تسجيل القطعة واستخراج الوثائق الرسمية لها قبل الحرب “قابلنا عدد من المسؤولين بداية بمدير قطاع الشباب والرياضة ثم وزير التربية والتوجيه والذي بدروه حولنا الى سلطات الأراضي لتكمل الإجراءات لكن ظروف الحرب أحالت دون اكتمالها، ثم فوجئنا بعد استئناف عمل مؤسسات الدولة بالولاية بأن القطعة تم توزيعها منازل سكنية”. واماطت شخصية حى الاندلس اللثام عن الأشخاص الذين استخرجت لهم المنازل، الذين ابرزوا عقودات الملكية مرفقة بايصالات مالية (لم نتمكن من الحصول على صور من الإيصالات لدواعي السلامة) تصل قيمتها إلى الــ 1,300,000 جنيه سوداني؛ موزعة في ثلاثة اصالات 500 ألف جنيه، 300 ألف جنيه و500 ألف جنيه تم توريدها لإدارة الأراضي “تحدثنا معاهم بأن هذا الساحة مخصصة للشباب لكنهم ردوا علينا من خلال العقودات التي تم تمليكها لهم من قبل إدارة الأراضي”، ووصف المبلغ بالزهيد جدا مقارنة بقيمة الأراضي في الحي. واضح أن الملاك الذين وزعت لهم أرضية السكنية النادي كانوا في الأصل مقيمين في تلك المساحة كسكن عشوائي؛ مضيفًا أنهم قابلوا عدداً من المسؤولين قبل الحرب بغرض تمليكهم المساحة، إلا أن محاولتهم باءت بالفشل لأن المساحة ـــ حسب رد الجهات المختصة ـــ في الأصل كانت مخصصة لمركز شباب الأندلس ولا يمكن التصرف فيها أو إعادة غرضها. من الواضح أنه بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة نيالا، كثُرت التعديات على المساحات العامة ووصل الأمر إلى تخطيط النوادي ومراكز الشباب ودور العبادة.
المتورطون
تضم وزارة التخطيط العمراني عدد من الإدارات أهمها إدارة الأراضي والمساحة والبحوث والتخطيط وإدارة الاستثمار إلى جانب عدد من الإدارات الأخرى، يعمل بها أكثر من 700 موظف وعامل. ويفيد مصدراً موثوقاً لديه صلات وطيدة بأحد المتورطين، أنّ ما يقارب الــ 30 من موظفاً زاولوا العمل بعد سيطرة الدعم السريع، ابرزهم مدراء الإدارات الرئيسية وهم مدير الأراضي الاستثمارية قبل الحرب والذي أصبح وزيراً للبنى التحتية والتنمية العمرانية ــــ تفيد معلومات غير مؤكدة أنه قام بسحب جميع الوثائق والمستندات بعد سقوط قيادة الجيش بنيالا بغرض المحافظة عليها؛ مدير عام الوزارة قبل تشكيل الإدارة المدنية التابعة للدعم السريع؛ مدير مكتب الوزير؛ مسؤول خزينة العقودات قبل الحرب وحتى تشكيل الإدارة المدنية والآن يشغل منصب مدير أراضي نيالا؛ مدير إدارة المساحة قبل الحرب وحتى تشكيل الإدارة المدنية الذي عيّن لاحقاً مديراً عاماً للوزارة.
يظهر من التقصي والتتبع الدقيق والإفادات التي تحصلنا عليها، أن عمليات تزوير العقود والفساد في تخطيط الساحات العامة مرتبطة بخيوط تواصل بين السماسرة وشخصيات نافذة في الأراضي؛ فضلا عن سرقة العقودات سواء من الأرشيف أو إصدار عقودات جديدة بعد سيطرة قوات الدعم السريع على الأوضاع في جنوب دارفور. وتبقى الأسئلة”ما مصير المواطنين الذين قد يفقدون منازلهم وأراضيهم جراء التعدي عليها أو تزوير المستندات أثناء الحرب؟ هل من الممكن فقدان أرضهم في حال غياب سجلات الأراضي بالتلف أو السرقة؟ وهل من طريقة تحفظ لهم حقوقهم؟ هل من الممكن أن يتسبب فقدانهم لأراضيهم في تجدد العنف؟”