الخرطوم:حسين سعد

مبروك للشعب السوداني بكل فئاته علي نجاح ثورتنا الظافرة التي أدهشت العالم لجسارتها ،وصمودها في الاستمرار أمام أدوات القمع ،والبطش التي لجأ إليها النّظام، لكننا نري ان هذه الثورة  ما زالت تواجه تحديات متعدّدة،ليس أقلّها المحافظة على الوجدان المشترك الذي اعتدى عليه النّظام، وتأكلت بسببه الوحدة الوطنيّة ، وتصاعدت بشكل غير مسبوق القبلية،والتحدي الاخر الذي انجبته الثورة هم اللاعبين الجدد الشباب عماد الثورة وايقونتها،ولابد من التفكير في الكيفية التي يتم عبرها إشراكهم  في العملية السّياسية التي احتكرتها القُوى السياسية التّقليديّة ،ومراكز القُوى القبليّة وغيرها،ونعتقد أنّ زمن التغيير الديمقراطي سيكون ثقيلًا جدًّا ، فهو حتى الآن مكتظٌّ بالآلام، وبمعاناةٍ مستمرّةٍ لم يشهد شعبٌ ثائرٌ لها مثيلًا، لكن ما قد يخفّف من وطأتها ، هو الوعي بالتعقيدات،والصعوبات المحيطة، والثقة بجدوى المثابرة لتجاوزها أو على الأقلّ التخفيف من آثارها، ويخطئ من يعتقد أنّ الثورة ومشروعها في التغيير الديمقراطيّ لا يمكن أن تشوّه، او تصاب الجماهير بخيبة الامل، ففي التاريخ أمثلةٌ كثيرةٌ عن ثورات حقيقيّة،وشاملة،هُزمت مؤقّتًا، والأنكى من ذلك، أن تلي الهزيمة مرحلة يعاني فيها الشعب الثائر الأمرّين قبل أن يتمثّل الدروس، وينهض من جديد بعد معاناة استمرت ثلاثة عقود من الوصاية والاستبداد ،ومن منظومة الخوف والارهاب ومن الإفراط المرير في الإهانة، والإذلال، والاحتقار، هذا التراكم لم يوقظ الشعب ّ فقط، بل أعاد بناء ثقته بنفسه، مغذّيًا شعوره بالانتماء الإنسانيّ ومثيرًا في أرواح أبنائه مكامن الحريّة والتغيير والعدل،والتضحية،فالمشاكل التي يعاني منها الشعب السوداني،نجدها في مجالات عديدة، يصعب تلبيتها على المدى القريب ،والمتوسط، سواء الاحتياجات الاقتصادية أو الحقوق السياسية ،ومطالب المواطنة المتساوية، ويشكّل مسار التّحدّيات  الذي واجهته الثّورة ،والظّروف التي تعاملت معها خلال خمسة أشهر، نموذجًا بالغ الدّلالة حول عبء الاستبداد، وميراث تاريخ طويل من الممارسات الشموليّة، وبالرغم من ذلك فقد نجحت الثّورة في كسر الشّروط القاسية التي كانت تحول دون انطلاقها، لتتعامل بشكلٍ جيّدٍ مع فرص الحشد والتّعبئة الاجتماعيّة، واستخدام أساليب النّضال المدنيّ في مواجهة الأدوات القمعيّة التي استخدمها النّظام في محاولة إجهاضها، متمسكة بخيار السلمية السلمية كمنطلق، وعنوان أساسي لصناعة التّغيير الذي تنشده، لقد استطاعت الثورة  انتزاع الشّرعيّة الشعبية، معيدة إلى واجهة العمل الوطنيّ مكوّنات اجتماعيّةً، وسياسيّةً طالما استبعدت من الشّراكة والسّياسة، مثل: الشّباب الي جانب اعادة بناء التخريب ،وعودة الوجدان المشترك ،ونبذ العصبية، والقبلية، وما قامت به الحكومة يمكن قراءته في الحوار الذي اجراه الزميل صديق دلاي مع القيادي الإسلامي البارز أحمد عبد الرحمن محمد:اشتغلنا بتفكيك الجبهة الداخلية بدون فائدة من ذلك وفرتقنا الأحزاب بقصر نظر عجيب وعجزنا عن تحقيق وحدة وطنية معقولة مع بقية السودانيين، وتعاملنا بطريقة غير مسؤولة مع ثوابت سودانية، فتعاملنا مع قطاعات ضخمة بولائها القبلي والجهوي، وكان تعامل غير مسؤول للقضايا الوطنية،وأضاف: تعاملنا بالولاء القبلي والجهوي وهو عدم مسؤولية للقضايا الوطنية،

التمكين:

خلال ثلاثين عاما أنشأت الانقاذ انظمة متشابكة،ومتداخلة معقدة الحلقات من المؤسسات والقوانين والشبكات، والشركات، والمصاهرات، والعلاقات الداخلية، والخارجية تعمل في مجملها على تمكين، ورعاية وحماية الدويلة الطفيلية في ذات الوقت تعمل على خلخلة وتفكيك وتقويض وانتزاع دولة المؤسسات الرسمية، واقامة مؤسسات بديلة لصالح دويلة الاخوان، كما تم تشريد الكفاءات النزيهة التي كانت تلتزم بصرامة بروح قوانين العمل، وتم فصل مئات الالاف من خيرة كفاءات الخدمة المدنية، والعسكرية الوطنيين المنضبطين المؤتمنين على الحقوق، وتمت عملية احلال شامل بكوادرالانقاذ غير المدربة ممن لهم نصيب متواضع في حظوظ الامانة والنزاهة ترك لهم الحبل على الغارب يديرون مؤسسات الدولة على هواهم، وبما يتواءم مع مصلحة الانقاذ انفاذا لنهج التمكين،حيث تم تدمير السكة حديد، والخطوط البحرية ،والنقل النهري ،المواصلات السلكية واللاسلكية، وبيع أصول مشروع الجزيرة، وغيرها من المؤسسات القومية ،اما محاربة الفساد فقد فشلت كل محاولات المحاربة التي إنشأت لها العديد من من المؤسسات، واللجان أخرها وحدة محاربة الفساد،والاعتداء علي المال العام فتكفي نظرة واحدة الي تقارير المراجع العام التي توضح حجم الفساد المحمي بالقوانيين،

الدولة العميقة

تصف تقارير اعلامية الدولة العميقة بأنها عبارة عن شبكة معقدة من لوبيات مالية وعسكرية وأمنية وسياسية وقبلية، وهي شبكة متينة في قوتها، معقدة في تركيبتها، ومتباينة في أهدافها التي تسعى إلى المحافظة عليها، هذه المنظومة لها ارتباطات، وعلاقات بقوى مشابهة على المستوى الإقليمي والدولي، وتعتبر الانقاذ نموذج فعلي لفكرة الدولة العميقة، وهي ،واحدة من انظمة كثيرة تكتسب الكواليس فيها أهمية أكبر من خشبة المسرح نفسها، فالقابعون في هذه الكواليس لا يطمعون في الظهور، ولا يبحثون عن إعجاب من أي أحد، ولا تشغلهم كثيراً مسائل مثل البطولة أو الكاريزما، أو ما سيقوله التاريخ عنهم، في أفضل الأحوال، يمكن أن تنحصر أمنياتهم بخصوص التاريخ في أن يغض الطرف بالكامل عن سيرتهم ،وأن يطوي صفحاتهم بكثير من الهدوء، ولمعرفة الإحاطة بالدولة العميقة أو الإمساك بأطرافها،لابد من تعريف الدولة العميقة،وهي عبارة عن تحالف عميق يجمع في طياته بنيان الدولة المختلفة، من جهاز إداري وسياسي وإعلامي، ومثقفين ورجال دين ودعاة وشيوخ قبائل ورجال أعمال، ويستثني أفراده من أي محاسبات أو مسائلات، وعدم تعرضهم لأي متابعات قضائية إن اهتز النظام القائم أو استجدت أحداث من شأنها زعزعة المنظومة التي يستظلون بظلها ويحتمون بسلطانها، وينهبون ويفسدون بوجودها،وفي سياق ذو صلة تصفها تقارير اعلامية بأنها: تركيبة معقدة ومتداخلة أشد التداخل، تجتهد ألّا تترك مجالاً إلا واكتسحته وزرعت أذرعاً لها فيه، سواء كان ذلك المجال سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو حتى رياضياً،وهذا يعني أن اختراقها قد يكون محالاً، وتفتيتها من الداخل أمر يحمل الكثير من المجازفة والخطورة، إذ قد يتفتت بتبعاتها كيان الدولة ككل، لذلك فإن إزاحة رأس النظام، باعتباره أهم مكون للنظام، لا يؤدي إلى انهيار المنظومة بقدر ما يعني تواري ذلك المكون لفترة مناسبة تتيح له الفرصة ليتهيأ للعودة  بقوة، من خلال المؤسسات الجديدة التي ما زالت عناصر الدولة العميقة فاعلة داخلها، وذلك عن طريق محاولة خنقها وزرع القلاقل فيها حتى تضعف وتتهاوى، أو القبول بها كأمر واقع، مع عدم الانصياع لقوانينها، والعمل على إفشالها بجعلها تعمل في الحدود الدنيا من القدرة، والرهان على الزمن حتى تفقد ثقة الجمهور، وهو ما يضعفها ويجعلها تتهاوى وتفشل.
كيف تعمل الدولة العميقة؟

من أذكي أدوات عمل الدولة العميقة حتي تحافظ على شبكات المصالح بداخلها هو استخدام العنف في إطار حالات استثنائية خارج إطار القانون، وهو ما يعرف بحالة الاستثناء، والتي يتم فيها اتخاذ العديد من الاجراءات الأمنية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي من الخطر الخارجي، وأنه هناك دائما عدو مترصد لابد من التأهب دائما لصده عن ما يشكله للدولة من تهديد، وفي إطار ذلك تقوم الدولة بقمع المعارضين، وكل من هم لا يشعرون بالرضا عن أداء الدولة بشكل عام، والسياسي بشكل خاص، ويكون الهدف هو إضفاء طابع قانوني على حالة الاستثناء، وليس بعيدا أن يتم استغلال المؤسسات الدينية التي تسيطر عليها الدولة لتبرير تلك الاجراءات من الناحية الدينية حتى يتم إضاء طابع (شرعي – ديني) على ممارسات الدولة الأمر الذي يدفع المواطنين بالتزام الصمت، وتقوم الدولة العميقة أحيانا بانتهاج الحيل والخداع على المواطنين من أجل الحفاظ على النظام العام ومنظومة القيم والمعتقدات المتعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر للدولة، الاداء الاخري التي يتم استخدامها  هي الجهاز الاداري البيرقراطي ،وهو أحد أدوات الدولة العميقة، لجهة تطويل العمليات الادارية على المواطنين، والتي من خلالها يعمل الموظف على الحفاظ على النظام ،وعدم إعطاء المواطن الفرصة بالاعتراض أو احداث خلل في تلك المنظومة، أيضا تقوم الدولة بامتلاك أدوات الاقتصاد والتحكم في الاسواق من أجل الحفاظ على شبكات المصالح الاقتصادية التي تستفيد بشكل ما أو بآخر ببقاء النظام العام على ما هو عليه وفي سبيل ذلك تقوم بافتعال الأساطير والحكايات التي من خلالها تتحكم في مسألة العرض والطلب واتجاهات السوق، فضلا عن قيام الجهات السيادية بامتلاك العديد من الشركات الاستثمارية التي تعود عليها بالربح وتكون جزءا من العمليات الاقتصادية، كما تقوم الجهات السيادية بالتوغل داخل الأجهزة الادارية، والتنفيذية داخل الدولة مثل الحكم المحلي من خلال تعيين ممثلين الدولة العميقة حتى تضمن أن جميع مفاصل الدولة تعمل بنفس للوتيرة، بجانب التعينات في مجالس ادارات الهيئات، والشركات المتعلقة بالبنية التحتية، والخدمات الأساسية، وكي تستكمل هذه المعزوفة فإننا نرى الحملات الدعائية في الإعلام، والتحريض، وتوصيل رسائل الدولة بشكل مباشر وغير مباشر، والمساهمة في خلق الحيل والخداع وتضخيم العديد من القضايا الفرعية على حساب القضايا الكبرى لتحريك الرأي في اتجاه يحافظ على النظام ، ولن يكون هناك مجالات للشك في خضوع وسائل الإعلام المختلفة لأجهزة الدولة العميقة التي ترعى وتمول مثل ذلك الدور.

الخاتمة

أّن زمن التغيير الديمقراطي سوف يطول، وستزداد تكلفته أيضًا، نظرا للخصوصيّة التي تميزه، والتعقيدات التي تعترضه، حيث يقع السودان كما قلنا ضمن سباق محاور اقليمية، ودولية بعضها تتحكم فيه مصالحه التي لا تحبذ التحوّلات الديمقراطيّة،وبعضها لم يتفاعل مع  يعانيه  الشعب السوداني لذلك كانت مواقفها اثناء الثورة ما بين الصمت الخجول والسلبية  والتردد،وأخري تخشي التداعيات التي سوف يخلقها قيام سلطةٍ ديمقراطيّةٍ في السودان،لذلك نري ان مشروع التغيير في السودان سوف يواجه مصيره، وحيدًا، وأنّ ثمّة قوًى إقليميّةً ودوليّة مؤثّرة، وفاعلة تقف سدًّا في وجه مطالب الناس في التغيير، لذلك نري  أنّ المستقبل لم يعد يقتصر على توازناتٍ داخليّةٍ صرفة، فقد أفضى طول أمد الصراع،  وحالة العنف المفرط  الذي مارسته الاجهزة الامنية، والسياسيّة، وتسارع التدهور الاقتصاديّ، إلى استجرار أدوارٍ خارجيّةٍ واسعة، الفرضية الاخري والمهمة هي ان النظام السابق هو من نوع الانظمة الأبعد سياسيًّا عن شعارات الحريّة والديمقراطيّة، والأكثر استسهالًا للتجاوزات والأعمال الانتقاميّة، وتتصرّف، وكأنّ ليس من رادعٍ يردعها في توظيف مختلف الأدوات ،ومايفسر ذلك تخوفهم من شعار الثورة (اي كوز ندوسو دوس)اخيرا نري ان  ما يطيل آلام المخاض للانتقال الديمقراطي، وبناء دولة المواطنه، يتمثل في واقع المعارضة، وما تعانيه من تشتّتٍ، وتباينات، وعجزها عن إظهار صورةٍ موحدة ،ومقبولة لكلّ مكوّنات المجتمع يمكن أن تزيل ما يكتنف المشهد من التباسات، حيث يصف البعض المعارضة بأنها ماتزال عاجزةً الاتفاق علي وثيقة موحدة،فضلا عن تأدية الدور القائد أوعلى الأقلّ مواكبة معاناة الشعب وهمومه، فضلا عن قصورها في بناء قنواتٍ للتواصل والتفاعل معه، ومدّه بأسباب الدعم والاستمرار،ونري ان المعارضة لم تنجح حتي الان في معالجة هذه الثغرة، ونيل ثقة الناس، وقيادة مشروعهم في التغيير الديمقراطيّ، كما انها لم تنجح في إظهار نفسها كقدوةٍ حسنةٍ في المثابرة، والتضحية، وضرب النموزج اللافت في الالتزام بسلوكٍ ينسجم مع شعار الحريّة والتغيير،ويبدي أعلى درجات الاستعداد للتسامح واحترام التنوّع والتعدد.