الخرطوم سلاميديا
الباقر العفيف
وجُهَيْزَة التي أتتني بالخبر ليست تلك المرأة صاحبة المثل الشهير، والتي دخلت على رهط رجل مطلوب في دم بينما هم يفاوضون أهل القتيل في محاولة لإثنائهم عن الأخذ بثأره، يلتمسون إحدى الخصلتين إما العفو لوجه الله أو قبول الدية منه. فما كان من جهيزة التي يكاد “الشمار” يفتك بها، إلا وأن ألقت في وجوههم الخبر الحار Breaking News : أن بعض أهل القتيل قد ظفروا “بزولهم” “ولحقوه أمات طه”. فانفض سامر القوم وتبدَّدت خطبهم البليغة في الهواء، بعد أن قَطَعَتْ جُهَيَزَة قول كل خطيب.
أما جهيزتي التي أحدثكم عنها هنا، فهي علوم الجينوم ومعامل صاحبة الجلالة الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا العظمى، لفحص الحمض النووي أو ما يعرف بال DNA. وبما إني صاحب فرضية في أمر هوية السودانيين المنحدرين من على ضفاف النيل بوجه عام، وقبائل الشايقية والرباطاب والجعليين على وجه الخصوص، ممن فقدوا لسانهم النوبي وتبنوا العربية كلغة أم، بأنهم نوبا مستعربون. أي أنهم ليسوا عربا كما يدّعون، وأنه لا تجري في عروفهم دماء عربية، وأن جَدَّّهم العباس جَدٌّ مُنتَحل. وأنَّهم قتلوا جَدَّهم الحقيقي (النوبي) قتلا معنويا ورمزيا، ومحوا ذكره من وجدانهم، ثم محوا ذكره في العالمين. وتبنوا جَدَّّا بديلا عنه، هو العباس ابن عبد المطلب. وبناء على ذلك فهم مصابون بعقدة أوديب (الذي قتل أباه) من ناحية وبعقدة عنترة بن شداد (الذي كَرِهَ أمَّه) من ناحية أخرى.
وقد رددتُ جميع مشاكِلِنا السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية لهاتين العقدتين بالذات. فنحن، السودانيين الشماليين، لا نقبل أنفسنا كما هي ولا نتصالح معها. ولا تبدو أرواحنا مرتاحة داخل أجسادنا، كأنما كل فرد منا “فيه شركاء متشاكسون” وليس “سَلَمَا” لرجل أو امرأة. لا نريد أن نكون سودانيين وكفى، ولا نريد أن تمتد جذورنا داخل حدودنا مع النيل الخالد، وكأننا لا نستذيق المياه العذبة، ولا نريد أن نعانق الاهرامات التي بناها أجدادنا الحقيقيون الذين أنكرناهم فصرنا كمن ينكر ضوء الشمس من رمد. “فسبحان واهب العقول ومُعْمِيْهَا” كما يُعَبِّر الشاعر معروف الرصافي.
وقد أزْعَجَتْ هذه الفرضية كثيرين، وأثارت غضب كثيرين، وعرضتني للنقد الرصين وغير الرصين. وبما إني رباطابي من جهة أبي المتحدر من (الجزيرة أَرتُل قرب الشِّرِيْك) وجعلي من جهة أمي المتحدرة من (نواحي كبوشية وكَلِي)، ووفق الأسطورة الشائعة فمن المفترض أن أكون عربيا من الجهتين، جهة الأب وجهة الأم. وأن يفيض جسدي بالدماء العربية “العباسية المباركة” رغم أنف سحنتي النوبية، ورغم أنف الأحباش الذين ما أن حللت بأرضهم إلا و “راطنونني” وأصروا أنني واحد منهم.
فماذا كانت نتيجة فحص الحمض النووي؟ تهيأوا أيها القريشاب والشارباب لخبر جهيزة الخواجية، وأصيخوا السمع:
أنتم أحباش كوشيون نوبيون شرق أفريقيون ولستم عربا أيها الجعلتية..
فماذا أنتم قائلون؟
أتصوركم تقولون :” بالله قوم كده بلا جينوم بلا كلام فارغ! حرَّم عباسيين ولو كره “الكافرون” بأشجار الأنساب… عباسيون غصبا عنك وعن علوم الخواجات “الكضابة”. أليس كذلك؟
الآن دعونا نفحص النتيجة:
إن نسبة جيناتي المنتمية لأفريقيا جنوب الصحراء هي ٩٧.٩ ٪ وهذه منها ٩٦.٨٪ تنتمي لشرق أفريقيا. وبالطبع نعرف أن هناك تداخل كبير بين ممالك النوبة القديمة مثل كوش ومروي وممالك الحبشة القديمة مثل بنط وأكسوم. فنحن في الحقيقة شعب واحد من الناحية الجينية ولكن تعددت لغاتنا وأدياننا. أما بقية الجينات المتبقية العالقة بشجرتي النوبية فتبلغ ٢.١٪. وهذه متوزعة بين ثمانية أقسام تفصيلها كالآتي:
جينات تنتمي لغرب أفريقيا نسبتها ٢.٪ (أي صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات تنتمي للمجموعات الأفريقية التي تعتمد على الصيد والجمع (زي الأقزام Pygmies) بنسبة ١.٪ (أي صفر فاصل واحد في المائة) . وجينات تنتمي للمجموعات الأفريقية التي تقطن جنوب الصحراء بشكل عام بنسبة ٧.٪ (صفر فاصل سبعة في المائة). وجينات تنتمي لغرب آسيا وشمال أفريقيا بنسبة ١.١٪ (واحد فاصل واحد في المائة). وجينات تنتمي لشمال أفريقيا والجزيرة العربية بنسبة ١.١٪ (واحد فاصل واحد في المائة). وجينات أوروبية محددة بنسبة ٢.٪ (صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات أوروبية بصفة عامة بنسبة ٢.٪ (صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات غير مصنفة بعد بنسبة ٨.٪ (صفر فاصل ثمانية في المائة).
ويبدو أن جهيزة الخواجية أرادت أن تعوضني عن خسارتي للعباس بإخباري أني والزعيم الخالد نيلسون مانديللا تحدرنا من جد واحد. وأن هذا الجد المشترك عاش قبل ١٤٠ ألف سنة. ربما كان هذا أبونا آدم.
وهكذا يضع العلم حدا للأسطورة. ويثبت فرضيتي التي تناوشتها السهام العروبية الصدئة. وكشأننا في سوء الظن بكل شيء حتى العلم، فَهِمَ البعض أن في قولي هذا تقليل من شأن العرب والعروبة، وإعلاء من شأن الأفارقة والأفريقانية، في حين أنني أؤمن إيمانا راسخا لا يتطرق إليه الشك أن الناس كلهم سواء لا يتفاضلون إلا بالقيمة والنبل والأخلاق. إنني أدعو فقط أن نكون “نِحْنَ يانا نِحْنَ.. ما غيرتنا ظروف ولا هدتنا محنة”. أي أن نكون كما خلقنا الله، وألا نحاول تبديل خلقه، وانتحال خلق آخر غيرنا.. وألا نقيس أنفسنا بمعيار خارجنا، وأن نكون ممتنين كوننا أصلاء في هذه الأرض التي يباركها النيل سليل الفراديس.. وأن نستعيد آباءنا النوبيين رواد الحضارة الإنسانية.. وأن نبعثهم من مرقدهم الذي حجرنا عليهم فيه.. وأن ننفض عنهم تراب القرون، ونعتذر لهم ونكرمهم ونفخر بهم.. وأن نرعى إرثهم الذي أورثونا لأنه ميراثنا أبا عن جد. فإهمالنا للتاريخ والآثار النوبية والكنوز المعرفية التي تركوها لنا إنما هو ناتج عن نكراننا لأصولنا.. عن نكراننا لهم.. عن قتلنا الرمزي لهم، واتخاذنا أبا بديلا عنهم. ومن هذا الأب البديل نتجت كل آفاتنا وعقد نقصنا إزاء العرب وتذللنا لهم..
فإننا لن نسعد في هذه الحياة ونحن نسعى في مناكبها بشخصيات زائفة.. والشخصية الزائفة هي التي لا تعرف نفسها، ولا تعرف قدرها.. هي التي تكره ذاتها وتنكر نفسها وتريد أن تكون شيئا سواها.. والشخصية الزائفة عبارة عن قشة في مهب الريح، تتجه أنى اتجهت الريح.. شخصية هشة، إمعة، تابعة ورخيصة.. ولقد أَفِضْتُ في الأمثلة الدالة على هشاشة الفرد السوداني المتوسط average بإزاء العرب في ورقتي “متاهة قوم سود ذوو ثقافة بيضاء” فليُلتَمَسْ في موضعه ولكني هنا أتحدث عن هشاشة الطبقة الحاكمة السودانية إزاء نظيراتها في العالم العربي..
لقد جَسَدَتْ هذه الطبقة الحاكمة الشخصية الزائفة منذ الاستقلال، فقد شهدنا كيف أنها فضلت الانضمام للجامعة العربية وأدارت ظهرها للقارة الأفريقية، وأهملت الانضمام للكومونويلث. وسعت لتعريب المناهج التعليمية في الجامعات من منطلق سياسي وايديولوجي استلابي، وليس من منطلق تربوي كذلك أهملت تحقيق السلام في مناطق النزاعات ولم تحمل لأهلها سوى الحرب.. وما ذلك إلا لأن تلك الطبقة كانت ذاهلة عن ذاتها، مغتربة عن هويتها الحقيقية.. تنظر لنفسها كنخبة عربية تجري في عروقهم “دماء شريفة”، وتنظر لمواطني المناطق المهمشة، حيث تدور الحروب، كأشباه بشر “تجري في عروقهم دماء رخيصة”، وهم من ثم لا يستحقون شرف المواطنة.. بل في ظنهم أن مثل هؤلاء لا يساقون “إلا والعصا معهم” كما قال الكارثة الذي يُسَمَّى رئيسا.
بيد أن قمة التجسيد لهشاشة الطبقة الحاكمة مثَّلتْها شخصيات قادة الإنقاذ.. فهؤلاء مستلبون مرتين، الأولى للعروبة شأنهم شأن الجميع، والثانية للإسلاموية. العروبة تدفعهم ” لاضطهاد أهل الأقاليم المهمشة، والإسلاموية تدفعهم لعدم الاهتمام بالوطن، لأن الأوطان، حسب فكرهم، “أوثان”. وتدفعهم لاضطهاد قومهم ممن لا يعتنقون أيديولوجيتهم. فإذا كان العروبيون عنصريين من جهة واحدة، فإن الإسلامويين عنصريون من ثلاث جهات: ضد الشعوب الأصلية، وضد غير الإسلامويين، وضد المرأة.
فالتعلم الطبقة الحاكمة قديما وحديثا، وليعلم العروبيون والإسلامويون الذين كذبوا المرايا طيلة عمرهم، إن الجينات لا تكذب.. فإن شاءوا استعادوا آباءهم الحقيقيين، واستردوا هويتهم النوبية، ومعها انسانيتهم، وخلعوا عنهم الأقنعة الزائفة، وإن شاءوا استمروا في الحياة وحالهم حال الغربان التي أرادت أن تمشي مشية الطواويس.. فلم تبلغ طائلا ولم تجد مشيتها الأولى وصارت كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.