بقلم : محمود الشين

    إن أبريل عند السودانيين لم يعد هو شهر الأكاذيب بقدر ما كان موسماً لإنتصارات كبيرة لشعب هذا البلد الذي يسعى وبقوة للخروج من وهدة الدكتاتوريات التي أعاقت فيه عملية  الإنتقال الديمقراطي مرات كثيرة ، وحالت بكل أسف دون تحقيق إرادة وحلم الأغلبية الشعبية التي تنشد الإستقرار السياسي.

 
    إذ تختزن الذاكرة الوطنية أحداث إنتفاضة رجب أبريل التي أسقطت هي الأخرى نظام مايو ، وأطاحت بالرئيس جعفر محمد نميري إلي خارج حلبة السلطة في العام ١٩٨٥م وهو الذي راهن على جماهيرية حزبه (الإتحاد الإشتراكي) غير أنه خسر الرهان ، لأن معظم التنظيمات والأحزاب الحاكمة في منطقتنا سرعان ما تتسرب وتزول بمجرد فقدها لبريق السلطة ومنابر الإعلام والشواهد على ذلك ماثلة.

   الجنرال جعفر نميري وصل إلى سدة الحكم بإنقلاب عسكري محمول على أجنحة اليسار ، ولكن ما أن إنتهى شهر العسل بينه ورفاق عبدالخالق محجوب ، نشبت خلافات حادة ، قام على إثرها اليسار بتنفيذ محاولات إنقلابية للإطاحة بحكمه ، فكانت البداية بإنقلاب ١٩يوليو ١٩٧١م الذي نفذه الرائد هاشم العطا ، وإن فشل بعد يومين فقط من إستلامه للسلطة ، فأعدم ومعه قادة اليسار – المقدم بابكر النور والرائد فاروق عثمان حمد الله ، إذ غدر بهما الزعيم الليبي معمر القذافي – كما سنرى.

  وأشهر تراجيديا أحداث يوليو هي مجزرة بيت الضيافة حيث قتل ثلة من ضباط القوات المسلحة وهي ملابسات سنفرد لها مساحة أخرى بمشيئة الله. فهي مثل أحداث عنبر جودة ، كجبار ، العيلفون ، الحزام الأخضر ، فض إعتصام القيادة العامة ، مجازر دارفور ، كلها أحداث تعبر عن مدى الإفلاس الأمني والسياسي وغياب الحكمة.

    لقد توالت الإنقلابات العسكرية ضد مايو
حتى وصلت إلى ست محاولات فاشلة وتعقبها كما العادة تصفيات جسدية لخصوم الإتحاد الإشتراكي ، لكنها نبهت الرئيس نميري إلي ضرورة إعادة النظر في أدوات إدارة الصراع ، فأبرم مصالحة عاجلة مع الجبهة الوطنية التي كانت تعارضه إنطلاقاً من أراضي ليبيا القذافي وهي تحالف كبير للمعارضين السودانيين.

    التاريخ يقول إن السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة – أحد مكونات الجبهة فاجأ الجميع بتوقيع تلك الإتفاقية في مدينة بورتسودان مع نظام مايو ، بعد عام واحد من غزو الجبهة للخرطوم في ٢ يوليو ١٩٧٦م فيما سمي بأحداث المرتزقة ، عادت بموجب ذلك عضوية التحالف للبلاد في حين لم تجف بعد حمامات الدم ، فقد أعدم أب عاج العشرات من قوات الجبهة في منطقة الحزام الأخضر جنوبي الخرطوم.

    ما يهمنا لأغراض هذا السرد من وحي ثورة ديسمبر ٢٠١٩م – أن نعرف بأن توجيهات قد صدرت للإسلاميين بعد المصالحة للإنخراط في مؤسسات وتنظيمات الحزب المايوي (الإتحاد الإشتراكي) ، حيث أصبح الدكتور حسن الترابي أحد مستشاري الرئيس جعفر نميري وإنخرطت كوادر الجبهة الإسلامية لتعلم الحكم والإدارة في أول تجربة من نوعها – مما فتح شهية الإسلاميين للإنقضاض على الديمقراطية في ٣٠ يونيو 1989م قبل إن تبلغ رشدها السياسي.

    كما هو معلوم فقد أعقب إنتفاضة أبريل التي وحدت فرقاء السياسة في السودان – إطلاق فترة إنتقالية  قصيرة – أدار فيها العسكر البلاد عبر مجلس عسكري إنتقالي برئاسة الراحل المشير عبدالرحمن سوار الذهب. وبغض النظر عن عما حدث أثناء حكم الجيش من قضايا وتطورات ، فإن سوار الذهب ، أوفى بتسليم السلطة للحكومة (الإتلافية) المنتخبة بأغلبية كاسحة لحزب الأمة برئاسة الراحل إمام الأنصار السيد الصادق المهدي والذي سقطت حكومته بالإنقلاب المذكور.

    الأحداث السياسية عندنا تبدو متشابهة حيث تدور متوالية (أحزاب عسكر) ولم تشهد الأطراف المترنحة أي تغيير نحو الأفضل ، وبالتالي تتعالي الأصوات المطالبة بضرورة التوزيع العادل للثروة والسلطة التي لم تخضع في نظر أهل الهامش إلى معايير مهمة مثل الكثافة السكانية وحجم المساهمة في تعزيز الإقتصاد الوطني وغيرها من المعايير المتبعة في دول أخرى مشابهة للحالة السودانية.

   في ١١ أبريل ٢٠١٩م – أسقط الثوار نظام الإنقاذ وكتبوا نهاية دراماتيكية لحكومة الرئيس المعزول عمر البشير بعد ثلاثة عقود من الحكم والتمكين. وجادت عبقرية الشركاء هذه المرة بحكومة مزدوجة مكونة من (المدنيين والمكون العسكري) – والأخير هو إمتداد معروف للجنة الأمنية التي شكلها المعزول في ديسمبر ٢٠١٨م من أجل قمع المتظاهرين وأغلبهم من الجيل الراكب رأس.. سنتحدث عن هذه الجزئية في مكان آخر.