حيدر المكاشفي

دائماً ما تأسرني القصص الانسانية المؤثرة فلا أستطيع تجاوزها، وقصة اليوم التي تم تداولها على نطاق واسع، تعكس نبل ونزاهة وعفة يافع صغير رفض باباء وشمم أن يأخذ مالا ليس حقه رغم محاولات الاغراء التي تعرض لها، والقصة تقول أن أحد الممثلين الشباب، أعد حلقة في برنامج (الكاميرا الخفية)، وضع كاميرته في احدى الزوايا الخفية ووضع مبلغا محترما في عرض الشارع في محاولة منه لاختبار أمانة وردات فعل من يعثرون عليه، وتصادف ان مر طفل صغير بالموقع دون ان يكترث للمبلغ، اسرع اليه المصور وقال له هذا المبلغ سقط منك، إلا أن الطفل رفض تماما إستلام المبلغ وقال (دي ماقروشي) بل ورفض حتى مقاسمة النقود مع المصور الذي حاول عبثا اغراءه بكل الطرق لاستلام ولو حفنة من المبلغ، وعندما كثرت على الطفل محاولات الاغراء، رفضها بطريقة حاسمة ملوحا بيده في وجه المصور ومضى لحال سبيله، ووجد الطفل إعجاب وإشادة كبيرة من المتابعين على أمانته ووازعه الديني والأخلاقي.

صحيح أن موقف هذا الطفل النبيل العفيف النزيه يستحق كل الاعجاب والاشادات التي نالها، ولكني شخصيا لم استغرب موقفه هذا، فأنا أصلا لدي قناعة قديمة وزعم قديم بأن الفقراء أكثر نبلا وكرما وقناعة وشهامة من الأغنياء، ولم تزدني الأيام وتجارب الحياة إلا قناعة بهذا الزعم، ولهذا لم أستغرب أو أُدهش من موقف هذا الطفل الذي يبدو من مظهره العام أنه فقير وينتمي لأسرة كادحة، فهكذا دائما هم فقراء بلادي، رغم أنهم يقبضون على الجمر إلا أنهم لا يسألون أحدا منة ولا عطية دعك من ان يأخذوا حقا ليس لهم، بل تجدهم هم العاطون رغم ما بهم من خصاصة وتراهم أشد الناس غنى، فيما جيوبهم فارغة، كما تجدهم الأكثرين عند الفزع والأقلين عند الطمع، رغم أن قلوبهم مثقلة بالأسى والآهات ورغم ما يقاسونه من آلام ومرائر، ورغم أنهم يتقلبون على نار الحاجة والفاقة والحرمان، ولكن مع ذلك يتجملون بالصبر والرضا، وهل هناك أتم وأكمل وأبهى حلية يمكن أن يتزين بها المرء أهم من الصبر والرضا.

والقصص التي تعكس نبل وشهامة ورجولة هؤلاء الكادحين بعدد الحصى مما لا يمكن حصره هنا، وما الذي قدمه هذا اليافع الصغير إلا نموذج لمئات بل آلاف النماذج لأمانة ونزاهة وشهامة ومروءة فقراء بلادي، ومن هم في عدادهم، ولكن اسمحوا لي أن أتخير منها قصة الواثق صباح الخير الذي خصه البروف علي المك رحمه الله بتوثيق سيرته، فالواثق هذا كان قد تم إعدامه وصلبه بموجب قوانين سبتمبر التي أطلق عليها مسمى الشريعة، وكانت جريمته التي قادته إلى هذا المصير، أنه كان يسرق من الأغنياء ويصرف على الفقراء، فكان يتسور المنازل الفخيمة ويسطو على المتاجر الكبيرة ليلا، وعند حلول الصباح يكون قد وزع أغلب ما سطا عليه على الفقراء في حيه الذي يقطنه وخارج حيه، لقد كان شهما وجسورا وكريما محبا للفقراء رغم أنه سارق ورغم أن غايته النبيلة لا تبرر وسيلته المحرمة والمذمومة. لقد كانت قضية هذا الفتى اليافع أنه وجد فراغا اجتماعيا فملأه بطريقته..وبقي أن نقول إن الفقير ليس هو من لا يملك مالا ولا سيارة، وليس هو صاحب الدخل القليل المحدود، أو هو الذي تراكمت عليه الديون، ومن جهة أخرى ليس الغني هو صاحب المليارات والعمارات والمزارع والبساتين، فالفقير هو الذي يفتقر للغنى الروحي والقلبي والقناعة واليقين، والغني هو من امتلك هذه الخصائل والفضائل، يزداد غنى كلما زادت حصيلته منها، والناس معادن بعضهم نادر ونفيس وبعضهم كالصفيح، ومعادن الناس لا علاقة لها بالمال والثراء أو الفقر والإملاق، وإنما علاقتها بالعادات والطباع والتربية والأخلاق، فمن كان عزيز النفس عالي الخلق فهو من الأغنياء، والعكس صحيح، وعلى ذلك قس يا عزيزي القارئ.