ابحث عن

المدنية المعزولة

 
حمّور زيادة
10 ديسمبر 2022
يوم الاثنين 5 ديسمبر، وقع القائد العام للجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اتفاقاً إطارياً مع أحزاب وكيانات قوى إعلان الحرية والتغيير وقوى الانتقال الديموقراطي. بحسب الاتفاق الإطاري، فإن المؤسسة العسكرية ستخرج من السلطة. وسيكون هناك، بعد الاتفاق النهائي، سلطة مدنية في جميع المستويات، السيادية والوزارية والتشريعية.
يوم الخميس 8 ديسمبر كانت المواكب الشعبية تتعرض لقمع مفرط في أم درمان وفي الخرطوم!
البنود المكتوبة، التي تم التوقيع عليها يوم 5 ديسمبر جيدة إلى حد كبير. يمكن أن أقول بثقة إني أدعمها. لا يمكن أن أكون ضد سلطة مدنية كاملة. مستوى سيادي مدني محدود، لم يتم الاتفاق بعد هل يكون رئيساً منفرداً أم مجلس سيادة. رئيس وزراء مدني. مجلس تشريعي مدني. وكلهم من اختيار قوى الثورة الموقعة على الإعلان بالتشاور مع قوى الانتقال. هذا أمر جيد.
السلوك، الذي تم يوم 8 ديسمبر هو الحقيقة التي تتجاوز المكتوب.
نحن أمام احتمالين: الأول أن العسكر غير ملتزمين بما وقعوه قبل أيام؛ وكما فعلوا في 2019م بتوقيع الوثيقة الدستورية يفعلون اليوم. هم فقط يرضخون لضغوط دولية ويشترون وقتاً طامعين في اقتراب الكارثة الاقتصادية التي يحذّر منها المجتمع الدولي. حينها سيضطر العالم للتدخل وتقديم المساعدات. فالغرب يعرف أن حدود أمنه تمتد إلى هذه المنطقة. ومجاعة بالشكل الذي تتحدث عنه الأمم المتحدة في 2023م هي تهديد مباشر لأمن أوروبا. لذلك تضغط الحكومات الغربية للوصول إلى اتفاق يأتي بحكومة مدنية تتلقى المساعدات لمواجهة الكارثة الإنسانية القادمة. فإذا لم تأتِ الحكومة المدنية وأزفت ساعة المجاعة؟ يراهن العسكر على أن الغرب سيدعمهم ليأمن شر جحافل الهجرات، وليسد الطريق على روسيا المتوسعة التي قد تأتي داعمة للدولة المضطربة.
لذلك هم يوقعون على اتفاق إطاري لتسليم السلطة بيد، ويقمعون المواكب بيد. عدم الالتزام هذا يجعل أي اتفاق قادم معهم بلا قيمة.
الاحتمال الثاني أن العسكر لا يملكون سلطة كاملة على الأجهزة الأمنية. واللافت للنظر أن هذا ما ظلوا يشيرون إليه في تصريحات كثيرة، بلغت فيها الإشارات حد الاعتراف. فهم لم يفضوا اعتصامات الثورة في ولايات السودان المختلفة في يونيو 2019م، إنما جهة مجهولة من قامت بذلك. جهة ترتدي زياً نظامياً، بتنسيق في كل ولايات السودان، قامت بتفريق المعتصمين وقتلهم. أمام بوابات القيادة العامة في الخرطوم، وأمام مباني عسكرية وحكومية في ولايات أخرى. قائد الدعم السريع اشتكى أكثر من مرة من قوات ترتدي زي قواته وتنزل إلى الشارع. جهاز الشرطة يبحث عمن يطلق الرصاص على المتظاهرين وسط قواته غير المسلحة التي تخرج لحماية المواكب!
نحن إذن أمام جهة ما تمتلك سلاحاً وتنظيماً وقدرة على الاختراق عالية جداً. جهة لا يعرفها قادة الأجهزة الأمنية، ولا يستطيعون مواجهتها لمدة 3 سنوات.
هذا العجز يجعلهم غير مؤهلين لأي اتفاق قادم.
وما بين عدم التزامهم وبين عجزهم هناك وهم يراود بعض القوى السياسية، أن العسكر يريدون استفزازهم بهذا القمع حتى لا يكتمل اتفاق تسليم السلطة، وأن تجاهل القمع هو إفساد لخطة العسكر حتى يكتمل الاتفاق.
هذا الوهم الجميل يتناسى أن كل عبوة غاز مسيلة للدموع، وكل مطاطي أو حي، هو “مدماك” جديد في سور عزلة القوى السياسية عن الشارع الثوري الغاضب.
ولو صح هذا الوهم، فسنصل إلى سلطة مدنية لا مؤيد لها، بل هي هدف لغضب الشارع، سلطة معزولة يستطيع أي وكيل عريف أن يقيلها.
إن سلطة مدنية كاملة، ولكن معزولة ومغضوب عليها، لا تختلف عن سلطة غير مدنية.
إن عملية سياسية لا توقف آلة القمع، وتأتي بسلطة معزولة مرفوضة، غير جديرة بالاستمرار ولو كُتبت بنودها بدمع ملائكة السماء.
Pin It

طائفة المرجئة والصحفي القادم من المريخ

بقلم: فيصل محمد صالح
للكاتب والمفكر وعالم اللسانيات الأمريكي المعروف نعوم تشومسكي كتاب شهير صدر عام 2005 تحت عنوان "السيطرة على الإعلام"، سلخ فيه الإعلام الأمريكي وتوجهاته المرتبطة بالسلطة وقدرته على تزييف الحقائق وتوجيه الرأي العام لما تريده الحكومة الأمريكية أو تهيئة الأجواء لفعل أو ضربة تريد توجيهها نحو دولة ما.
آخر مقالة في الكتاب عنوانها "الصحفي القادم من المريخ" وهي مقالة ساخرة تخيل فيها أن صحفيا قدم من المريخ لتغطية الأحداث على الأرض، ووجد العالم منشغلا بقضية الحرب على الإرهاب "تذكر أن ذلك كان عام 2005"، فبدأ الصحفي يجمع معلوماته عن الإرهاب: أمريكا تضرب أفغانستان وتقتل الآلاف، أمريكا تضرب العراق، أمريكا تختطف رئيسا لإحدى الدول لمحاكمته في أمريكا...الخ، ملأ الرجل المريخي كراسته بهذه المعلومات، ثم ذهب ليبحث عن ما سيفعله المجتمع الدولي تجاه أمريكا، ففوجئ بأن أمريكا هي التي تقود المجتمع الدولي في الحرب على الإرهاب...!
لا أعرف ماذا فعل الصحفي القادم من المريخ، هل انتحر أم أنه انتظر أول رحلة فضائية تعيده للمريخ، لكنني تخيلت أنه عاد ليزور بلادنا نهار يوم أمس الإثنين ليجد الدنيا مقلوبة حول الاتفاق الإطاري بين التأييد والمعارضة والصمت والتخوين والوعيد...
. الخ.

أمسك الصحفي القادم من المريخ الاتفاق الإطاري وبدأ يقرأ فيه من المبادئ العامة التي تؤكد على وحدة وسيادة السودان، والتأكيد على الاعتراف بالتنوع الثقافي والديني واللغوي، والدولة المدنية الديمقراطية، وترسيخ مبدأ العدالة والمحاسبة، والتأكيد على الجيش القومي الموحد ومكافحة الفساد، ثم قضايا ومهام الانتقال ومنها الإصلاح الأمني والعسكري وخروج المؤسسة العسكرية والأمنية من النشاط الاقتصادي، والإصلاح القانوني والعدالة الانتقالية، ودمج الدعم السريع في الجيش المهني الموحد وتسريح ودمج الميليشيات، وإزالة التمكين....الخ، وتحديد هياكل الحكم الانتقالي وفيها مجلس تشريعي، ثم أخيرا القضايا الخمس التي جاءت معممة وسيتم عقد ورش ومؤتمرات لمناقشتها في الفترة القادمة قبل تضمينها في الاتفاق النهائي، وهي قضايا العدالة والعدالة الانتقالية، الإصلاح الأمني والعسكري، اتفاق جوبا للسلام، تفكيك نظام الإنقاذ، معالجة قضية شرق السودان

وقف الصحفي القادم من المريخ حائرا، ورفع حاجبه وصوته أيضا من الدهشة قائلا: " طيب يا جماعة الاتفاق دا كويس خالص، وفيه كل المبادئ العامة التي نادت بها الثورة، ليه في ناس رافضين...؟"

يحتاج الصحفي القادم من المريخ ليجلس قليلا في مقاعد الدراسة ليبحث عن السودان وتاريخه السياسي المعقد، والملامح الأساسية التي تشكل تجربته.

1- لا يثق السودانيون في المواثيق والاتفاقيات، فلديهم تاريخ كتبت فيه عشرات الاتفاقيات والوثائق التي لم تلتزم بها الأطراف السياسيةـ تنكرا لها، أو كسلا واستغناء بعد أن وصلت لمبتغاها، أو لعدم واقعيتها وصعوبة تطبيقها. ومن الممكن أن نبدأ بوعد الفيدرالية للجنوب، لمبادئ ثورة أكتوبر، ثم الانتفاضة، واتفاقية نيفاشا التي ركنها طرفاها جانبا وتركا مهمة الدفاع عنها للغشيمين من الذين اعتقدوا فيها، وكنا من بينهم والحمد لله. ثم هناك عشرات من اتفاقيات السلام في أبوجا والدوحة وأديس ابابا وانجمينا وفشودة وأسمرا والقاهرة ...الخ، غير اتفاقيات الداخل وحتى الوثيقة الدستورية الموؤودة.

2- لا يثق كثير من السودانيين في قيادات المكون العسكري بعد أن اختبروهم أكثر من مرة، فالتزموا بحماية الاعتصام، ثم قاموا بفضه في إطار عملية انقلاب عسكري كاملة لم تنجح، ثم عاكسوا الحكومة الانتقالية المدنية وتآمروا عليها وأضعفوها، مع قوى أخرى، ثم أخيرا انقلبوا على عملية الانتقال الديمقراطي في أكتوبر 2021. لكن خاب سعيهم حين حاصرت جماهير الشعب السوداني، وفي مقدمتها شباب لجان المقاومة، الانقلاب منذ يومه الأول، قبل أن تحاصره القوى الدولية والإقليمية، وحرمته من الاعتراف والشرعية الداخلية والخارجية، واضطرته للتسليم بالهزيمة. وكان شرط مجموعات كثيرة من قوى الثورة أن تذهب هذه المجموعة خارج كل دوائر ومستويات السلطة، وأن تأتي وجوه جديدة في قيادة القوات المسلحة لضمان خروج العسكر من السياسة تماما. وقد يكون مفهوما في إطار عملية توازن القوى حديث محمد الفكي سليمان بأنهم لم يستطيعوا إبعاد برهان وحميدتي من الصورة، إلا أن مجرد وجودهم سيجعل الكثيرين يضعون احتمال أنهم من الممكن أن يعاودوا فعلهم الانقلابي متى ما تهيأت لهم الفرصة، وبالتالي يرفضون الاتفاق طالما أنه لم ينجح في إخراجهم.

3- لم تستطع قوى الحرية والتغيير إحداث اختراق كبير في حواراتها مع لجان المقاومة وأسر الشهداء والمجموعات المدنية والسياسية المعارضة للتفاوض والاتفاق، ومعظم هؤلاء قد لا يختلفون مع نصوص الاتفاق، لكن بعضهم له موقف مبدئي من التفاوض ، والبعض الآخر لديه أيضا تاريخ من عدم الثقة في قيادات الحرية والتغيير، ومدى التزامها بما وعدت به، مثلا بعدم المشاركة في الفترة الانتقالية والاتجاه لتهيئة الأحزاب للانتخابات، فالصيغة النهائية للاتفاق لم تنص على هذا الأمر بوضوح، وتركت بعض النوافذ مفتوحة.

4- هناك من يرفضون التفاوض من حيث هو، ويعتبرونه اعترافا بالعسكر والإنقلاب، ويطالبون باستمرار الحراك الجماهيري المضاد للإنقلاب في الشوارع حتى يتم إسقاط الإنقلابيين. هذا الرأي ليس خاطئا تماما، مثلما هو ليس صحيحا تماما. التفاوض واحد من أدوات النضال السلمي، لكن هناك أيضا مسألة اختيار التوقيت المناسب، والعمل على تعديل موازنات القوى لصالح الجماهير، حتى تستطيع أن تفرض إرادتها في منبر التفاوض، وضرورة تحديد الموقف التفاوضي وسقوفه عبر عملية تشاور واسعة حتى يكون الموقف معبرا عن أوسع قطاع من الجماهير.

5- ويمكن أيضا المجادلة بأن رفض التفاوض كان المقصود به عدم الاعتراف بالإنقلاب وعدم إعطائه أية مشروعية داخلية وخارجية. وفعلا نجحت الجماهير في محاصرة الإنقلاب منذ صبيحة يوم 25 أكتوبر 2021، وحرموه من أي اعتراف، وفرضوا على المجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية والدولية مقاطعته. ولو لم تكن هذه المقاومة الباسلة منذ اليوم الأول لكانت بعض دول الإقليم والعالم قد اعترفت به منذ اليوم الأول كأمر واقع. بعد عام كامل لم يعد التساؤل حول مدى مشروعية الإنقلاب قائما، فقد انتهى أمره، وبدأ النقاش داخليا وخارجيا حول كيفية إنهاء الوضع الإنقلابي والعودة للمسار الانتقالي المدني الديمقراطي.

"بالمناسبة : كلمة إنهاء الانقلاب صحيحة لغويا وسياسيا، وهي أعم واشمل، وإنهاء الوضع الإنقلابي قد يتم بالإسقاط بالقوة، أو التفاوض، أو الاستسلام من الطرف الإنقلابي إن اضطر لذلك وفق تعديل موازنات القوى...الخ"

6- وجود القوى المعارضة للاتفاق ليس بالضرورة حالة عدائية أو ظاهرة سالبة، بل من الممكن النظر إليها كقوة ضامنة لأن يسير الاتفاق في مساره الصحيح ويحقق الشعارات العامة التي طرحها، وإن لم يصل لمستوى تطلعات الجماهير فإن الفعل الجماهيري قائم وموجود وهو لن يستأذن أحدا ولن يسمح للمكون للإنقلابي أن يعيد محاولة الإنقلاب مرة أخرى. من الأفضل لقوى الحرية والتغيير أن تحترم خيار القوى التي رفضت الاتفاق وتقبل منطقها في استمرار الحراك الجماهيري المعارض، وأن تضبط من جانبها ردود فعلها على مواقف الرفض الحادة من قبل لجان المقاومة والتيارات الأخرى. فقد قالت قيادات الحرية والتغيير إنها تعترف بأنها لا تمثل وحدها قوى الثورة، وأن هناك قوى أخرى تنتشر في ساحة العمل السياسي والمدني تأمل في الحوار معها، والحوار يبتدئ بالإحترام المتبادل للقوى والمواقف ووسائل التعبير عن هذه المواقف.

7- طبيعة وصيغة الاتفاق الإطاري فضفاضة ومعممة، ويحتاج لعمل كبير في التفاصيل، فقد ثبت من قبل أن مقولة الشيطان يكمن في التفاصيل ليست مجرد كلمات أدبية، لكنها حقيقة من الممكن أن تحيل أي اتفاق إلى مسخ مشوه لا يحقق رغبات وطموحات الجماهير. ولهذا فإن القطاع الأكبر من الجماهير هم الآن من طائفة المرجئة.

*"المرجئة هم فرقة كلامية خالفوا رأي الخوارج وكذلك أهل السنة في أمر مرتكب الكبيرة وغيرها من الأمور العقدية، وقالوا بأن كل من آمن بوحدانية الله لا يمكن الحكم عليه بالكفر، لأن الحكم عليه موكول لله وحده يوم القيامة.*

وبالتالي فإن هذا القطاع الأكبر لديه آمال كبيرة في العودة لمسار الانتقال والعمل على تحقيق شعارات الثورة، الحرية والسلام والعدالة بتفصيلاتها الكثيرة، يريد وطنا يحفظ كرامة الإنسان ويصون دمه وحقوقه واحتياجاته الأساسية، ويساوي بين الناس دون تمييز، ويضع أساسا لدولة مدنية ديمقراطية قائمة على حكم المؤسسات، يكافح الفساد ويعيد وضع أموال الدولة تحت رقابة الأجهزة المحاسبية والعدلية، يحقق العدالة وينهي متلازمة الإفلات من العقاب.

8- طائفة المرجئة قد تنتظر لترى كيف يمكن تحقيق ما تم ذكره في الاتفاق الإطاري، ومدى التزام الأطراف بالعمل على تحقيق ما ورد فيه، ومدى جدية الحرية والتغيير في الالتزام بكل ما وعدت به، ومن ذلك إجراء مشاورات واسعة مع كل القوى صاحبة المصلحة في تفاصيل الاتفاق والوثيقة الدستورية.

كذلك فإن من عوامل الجدية التي تحسب بها جماهير المرجئة موقفها، الأسماء المرشحة للمواقع المختلفة، من رئاسة مجلس السيادة ومجلس الوزراء وعضويته، فبعض الأسماء ستعطي مؤشرا واضحا حول المآلات المتوقعة، وستحدد مواقف قطاعات كبيرة من الناس، قبولا ورفضا.

طائفة المرجئة الدينية ترجئ الحكم على مرتكبي بعض الذنوب ليوم القيامة، لكن من المهم القول بأن طائفة المرجئة السياسية لا تفعل ذلك، ولا تعطي شيكا على بياض، وربما يقصر زمن صبرها عما يظنه البعض وعندها ستنقلب المواقف رأسا على عقب.

Pin It

قراءة حول مستقبل الاتفاق الاطاري وتأثيراته المحتملة علي الحراك الثوري

بقلم بكري الجاك

النهر قد يغير مجراه مع التحولات الطبوغرافية والجيولوجية لكنه لا يغير اتجاه جريانه، مثل هذه الملاحظات هي هبة الطبيعة للإنسان لاستلهام الحكم و العبر، أما في شأن الأنهر السياسية فالأمور في تبدل دائم بما في ذلك اتجاه جريان النهر، و يكفي أن نراجع ما كتب عن أي حدث أو عملية سياسية في تاريخنا و تاريخ غيرنا القريب و البعيد حتي نستذكر أن التحول في المواقف ليس مسبّة أو ضعف اذا ما بٌني علي تقديرات سليمة و مقاربات منطقية لواقع الاشياء و مآلاتها. سأتناول في هذا المقال القصير ثلاث جوانب تتعلق بالعملية السياسية الجارية وما أفرزته من اتفاق اطاري:
أولاَ: بعض الفرضيات التي بُني عليها الاتفاق، والتي يتم الدفع بها لتبرير خيار العملية السياسية كخيار أوحد احيانا،
ثانياً: المنهجية التي اٌتبعت وتٌتبع في ادارة العملية السياسية،
ثالثاً: النتائج التي قد تترتب على هذا الاتفاق وتأثيراته علي القوي الثورية.
وللعلم أنا هنا لست في موقع الهجوم على الاتفاق أو رفضه فهو ما زال قيد البحث والتداول والتفاوض، وانما انا بصدد تحليل واستقراء بعض مآلاته المحتملة على الحراك الثوري وفرص الانتقال السياسي.

الفرضية الاولي: هي تصوير الواقع السياسي و كأنه Zero Sum Game أي أنه ليس بالإمكان الا خياران اما عملية سياسية و تعني تفاوض يعكس حالة توزان الضعف و قدرات الأطراف المتفاوضة، أو موقف جذري للتغيير علي ضبابيته ينتظر حدوث كل الاشياء بضربة قاضية قادمة لا أحد يعلم كيف و من أين و بأي وسيلة ستأتي. وبالضرورة أن تقدم اي موقف سيكون على حساب الموقف الآخر، هذه الفرضية غير انها غير سليمة منطقيا، من حيث انها تصور واقعا متحركا علي أنه في حالة ثبات Static، فهي ايضا تغذي نفسها بنفسها في حالة منطق دائري في أبدع ما تكون عليه المغالطة المنطقية Logical Fallacy ، أي أن سوء (أ) يعني ضمنيا جودة (ب) و العكس صحيح. فحين يكتب المدافعون عن أي تسوية سياسية بحجة أن هذا أفضل ما يمكن الحصول عليه فهم يستبطنون منطقا داخليا لدحض حجج الموقف الجذري ويتسربلون بالواقعية السياسية بقول: "أن هذا أفضل ما يمكن حدوثه"، وبالمثل يفعل دعاة الجذرية التي لا تقف علي شيء سوي حجج الخطاب الاخلاقي القائم علي الصوابية السياسية التي لا يمكن ان يختلف مع تطلعاتها و غاياتها اي من دعاة التغيير.

الفرضية الثانية: أن سبب فشل تجربة الانتقال الأول هي ال Spoilers ، اي المخربون كما يحلو للذين يلوكون لبانة نظريات فض النزاعات، خصوصا ممن يحبون اكمال جملهم العربية ببعض المفردات الانجليزية الرنانة، و أن توسيع قاعدة المشاركة باستيعاب قوي سياسية لم يعرف عنها في القريب أنها مؤمنة بعملية التحول الديمقراطي سيسهم في تقليل فرص استغلالها سياسيا بواسطة المخرّبون الحقيقيون (تحالفات المال و السلطة في المنظومات الامنية و العسكرية و تمدادتها المدنية) في افساد عملية الانتقال الديمقراطي. هذه الفرضة، في حقيقة الأمر، غير انها بُنيت علي ادعاءات الانقلابيين بتوسيع قاعدة المشاركة، الا أنها خطأ في حد ذاتها، فنجاح الانتقال رهين بتوسيع قاعدة القوي الديمقراطية التي لها مصالح مادية في توطين و استدامة الديمقراطية و ليس اي (هردبيس) سياسي و فاقد تربوي انتهازي.

الفرضية الثالثة: أن تمتين النصوص في الوثيقة الدستورية المقترحة بواسطة (سمكرجية) من بعض خبراء القانون الدستوري هو الضامن الأول والأوحد لانتقال ديمقراطي سلس. فما دار من جدل - و مازال يدور - حول الوثيقة الدستورية المقترحة. هو في اصله كما كتب بعض الخبراء ايضا، يعرف بالجدل حول ال Constitution اي الدستور و ال Constitutionalism الدستورية، فالدستور بخلاف أنه القانون الأعظم و الأعلي في الارض فهو ايضا معني بتحجيم سلطة الدولة، و الدستورية كمفهوم يُعني بتقليل فرص عسف الدولة و تحديد صلاحياتها عبر نظام للحكم قائم علي سيادة حكم القانون الذي يجب أن يكفله الدستور. هذه الوثيقة إذا اعتمدت واصبحت المرجعية الدستورية فهي سوف تكون الوثيقة التاسعة والخمسون إذا ما أخذنا في الاعتبار ميثاق تأسيس سلطة الشعب ومن ثم الاتفاق الاطاري وبدأنا بمؤتمر جوبا في عام 1947، وإذا غضننا الطرف عن التجربة السياسية السودانية التي هي في جوهرها لا تعير اهتماما للوثائق و المواثيق، فهل لاي عاقل أن يعتقد أن حماية الانتقال تكمن في نصوص دستورية؟ فحتي وأن توفرت الارادة السياسية الحقة هذه المرة فهذه الدولة ليس لها قدرات و كفاءة في اجهزتها لتنفيذ جل ما سيتم الاتفاق عليه، و كل من يعتقد غير ذلك فعليه أن يقوم بإجراء تقييم شامل لهذا الجهاز ليري حجم البؤس المفاهيمي و الفقر الفني و القيمي و الاخلاقي لهذا الجهاز و الفساد الذي اصبح هو القاعدة في كل شيء فيه.

الفرضية الرابعة: أن الوضع الاقتصادي و السياسي في اشد حالاته خطورة و أنه يجب أن نفعل شيء ما لتدارك هذا الوضع بما في ذلك الحرب الاهلية.
أولا: ليس هنالك عاقل في هذه البلاد يمكن أن يغالط في خطورة الاوضاع و تدهورها بما في ذلك ظاهرة تلاشي الدولة و استمرار الاحتقانات الاثنية و القبلية التي لم تتوقف اصلا، الا أن هذا المنعطف الخطير ظل هكذا في هذه البلاد و حقيقة لا ندري "متي ستنتهي هذه الموزة" فهذا المنعطف ولدنا فيه و فيه حيينا و ربما فيه نموت، القصد هنا أن خطورة الوضع و تعقيده ليست بمبرر موضوعي ل (الكلفتة) و التعجل، بل العكس فإن اطلاق عملية سياسية عمياء لا تستوعب هذا التعقيد و تستوفي شروط الاستجابة الموضوعية لمكوناته، لا يمكن أن تثمر حتي و ان كان شعارها صباح مساء "هلموا الي تدارك التدهور و الخروج من المنعطف الخطير"، و الدليل أننا ظللنا نفعل ذلك علي الدوام طوال تاريخنا و ها نحن هنا جالسون في سهلة المنعطف الخطير هذي.

ثانيا: هنالك بلا مواربة خلل منهجي في الطريقة التي اٌديرت وتدار بها هذه العملية منذ الفها الي ياءها، بداهة ليس هنالك فاعل سياسي عاقل يمكن أن يكون ضد التفاوض من حيث المبدأ، فالإضراب كما الموكب هو تفاوض، وحتى شعار لا تفاوض هو موقف تفاوضي في حد ذاته، انما السؤال هو: تفاوض علي ماذا؟ كما أن هنالك مشكلة اشراك ومشاورة في العملية برمتها، فالمسألة ليست مسألة شفافية شكلية باستصدار بيانات الهدف منها فقط سد ذرائع الاتهامات بعدم الشفافية كبديل لعملية حقيقة تهدف الي التقرير في المصير الوطني عبر السعي لبناء جبهة وطنية ثورية توحد القوي الداعمة للديمقراطية حول رؤية للانتقال اولا ثم التفاكر حول الوسائل والآليات لتحقيق تلك الرؤية ثانيا. علي خلفية ذلك ظلت قطاعات عريضة حتى من احزاب القوي التي تفاوض في حالة تغييب وغياب عن هذه العملية. أما محاولات التواصل مع لجان المقاومة والنقابات عبر المبادرات الكثيرة المزعجة والمربكة لم تقم علي فضاء حر للتفاكر، بل علي الوصايا و التوجيه و التوبيخ و ادعاء امتلاك الحقيقة و الحكمة من كل الاطراف. الكل يقدم حجج عن أن الطريق الأمثل هو كذا و كذا الا أنني موقن أنه كان و مازال بالإمكان ادارة حوار جاد بين القوي الثورية المدنية الداعمة للديمقراطية للتوافق حول رؤية تعطي شرعية كافية لإطلاق عملية سياسية تقود الانتقال و تعالج سؤال المشروعية الذي سيلازم اي فاعل سياسي في هذه البلاد لعقود قادمات.

ثالثا: النتائج التي بدأت تترتب علي الطريقة التي اديرت بها العملية السياسية و ما أفرزته من اتفاق اطاري هي في جوهرها تقود بشكل غير مباشر الي تصفية جيوب المقاومة السياسية الداعمة للانتقال الديمقراطي، فالفشل في التعاطي مع سؤال المشروعية، من شاكلة أن من يمثل من، قد دفع بجل الفاعلين الي السباق الي الحضيض، فبدلا من البحث عن وسيلة لتوافق واسع للاجابة علي سؤال المشروعية في ظل عدم توفر فرصة لقيام انتخابات تعبر عن المعسكر الثوري الداعم للتحول الديمقراطي يمكّن من اعطاء العملية السياسية مقبولية لوضع لبنات التأسيس، انخرط جل الفاعلون في معركة قوامها الزعم بتمثيل الثورة الحق و ادعاء التفوق الاخلاقي و الصوابية السياسية، هنا معسكر يدعي الحكمة و الواقعية السياسية و آخر يدعي الطهر الثوري و النقاء الاخلاقي و الحق في الدفاع عن دماء الشهداء و كأنما دماء الشهداء حكر علي أحد بعينه. هذا الواقع كان اصلا ماثلا بهذا التعقيد و اطلاق عملية سياسية فيه لم تفعل شيء سوي أن أخرجت هذه المبارزات العبثية الي العلن، و بدلا من أن يستند المفاوضون الي شارع قوي و منظم كأهم عامل للقوي الثورية مع العلم أن العامل الخارجي تحكمه تعقيدات جمّة و ان كان بعض فاعليه داعمون للانتقال الديمقراطي، ظنوا أنه مزعج و أنه قد يكون سببا في عدم قدرتهم علي التفاوض و اكمال العملية السياسية، و بشكل غير مباشر بدأت عملية تصفية القوي المنظمة (من كل الاطراف) للحراك و شرذمتها وفقا للتصورات الصفرية، و قد أكملت الاجهزة الامنية و الاستخباراتية باقي المهمة. من يقولون إن العملية السياسية يمكن لها أن تمضي وتفشل، فان فشلت فالشوارع موجودة، ربما لا يعلمون كثيرا عن سيكولوجية الجماهير، و أن الناس لا يتحركون بمثل هذه التبسيط الفوضوي، و أن هزيمة المخيال الاجتماعي بفرص التغيير الثوري لها مآلاتها من هجرة الطبقة الوسطي و الشباب و عزوف البعض و يأس البعض و انتحار البعض و تطرف البعض، و هذا في ظل واقع تتم فيه قبلنة السياسة و تسيس القبلية بشكل منظم و شبه يومي.

خلاصة القول أن الأرجح هو أن ينتهي الأمر بتوقيع اتفاق اطاري يعطي طعم آخر لاحتفالات الكريسماس لفولكر بيرتس و ثلاثيته و يعطي نصر صغير لسفراء الرباعية، شيء يرسلونه في كيبولات الحقائب الدبلوماسية، و تعطي تحالف الحرية و التغيير اسابيع من النصر الزائف بأن الاتفاق هو بداية النهاية للانقلاب و هذا النصر يمكن أن يتحقق اذا بال

Pin It

الدوحة والخرطوم عقب المونديال .. هل من افق جديد !

بقلم : محمد بدوي


استباقا لنهاية منافسات كأس العالم التي تستضيفها دولة قطر، يأتي هذا المقال لمناقشة دور قطر المرتبط بالشأن السوداني انطلاقا من علاقتها بنظام الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني المحلول ، لابد من الإشارة الي أن ملف كاس العالم والتحضير الأمر الذي جعلها تقف بعيدة نسبيا مقارنة بعلاقتها السابقة بالخرطوم ، وهنا يطل السؤال حول ماهي السيناريوهات المتوقعة عقب انقضاء المنافسة مع استصحاب أن العالم لم يعد كما كان  قبل جائحة كورونا وكذلك لن تعود قطر  كما كانت قبل انطلاق صافرة المباراة الافتتاحية، هذا عطفا على سجل تغلبها على ترسانة العقبات من أجل استضافة المنافسة.
فيما ارتبط بالسودان فقد قادت استراتيجية ترتيب الأولويات إلى أن باعدت بين الدوحة و استضافة  قادة الإسلاميين السودانيين عقب اسقاطهم   في الخرطوم، كما  برزت ملامح  من التحول يمكن رصدها في  سياسة قناة الجزيرة الإخبارية من التعامل  الأحداث في السودان إلى أن وصل الأمر إلى إغلاق مكتبها بالخرطوم في وقت سابق عقب انقلاب اكتوبر٢٠٢١،بينما كانت الدوحة مركزا شهد ففي السابق أبرز تصريحات عراب الإسلاميين الدكتور حسن عبدالله الترابي حول الهندسة الايدلوجية التي استهدفوا بها الواقع في السودان،الى جانب السياق السياسي الأبرز و المتمثل في اتفاق وثيقة الدوحة ٢٠١١ الذي انتهي  في وقت مبكر بالفشل محمولا على طبيعته ومتأثرا بالعلاقة بين الخرطوم والدوحة .
استضافتها وتميزها في تنظيم المسابقة الكروية الأهم عالميا حتى الآن يفرض بالضرورة واقعا جديدا في كافة الجوانب الاقتصادية، الثقافية الدبلوماسية والضرورة السياسية التي ستفرص واقع جديد يتطلب  استراتيجية  لإدارة وأدوات تتسق معه، المشهد الأولي يكشف إلى أن هنالك ثمة تحضير للتعامل عطفا على  الاختراقات التي  تحققت ومن ابسط مظاهرها الارتداء الواسع  للزي القطري وسط  الجماهير بشكل عكس العمق الثقافي للمونديال وهو ما لا يمكن النظر إليه بمعزل من تفاصيل زخم احتفال الافتتاح الذي حمل رسائل إنسانية رفيعة جعلت الرياضة تلتحم بقيم المساواة والتعدد والكونية.
قراءة المشهد السوداني  في ظل تركيز قطر على هدفها، يشير إلى تعدد المحاور التي تدخلت في الشأن السوداني خلال الفترة الانتقالية، لكن ماهي النتائج؟
إذا نظرنا لإسرائيل فإنها راهنت على الاقتراب من المكون العسكري بهدف تكتيكي واستراتيجية هما دعم الحملة الانتخابية لرئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو لكن لأن سلك الطريق غير المعبد فكان نصيبه السقوط لأنه لم يتمكن من إنجاز صفقة إعادة اللاجئين السودانيين في إسرائيل ثم الاستراتيجي وهو  التطبيع مع الخرطوم والذي لحق سابقه فهي إلى جانب أهميتها كانت قد تسهل الطريق نحو مقديشو بعد تحقق التطبيع مع نواكشط،  مصر العربية التي حققت  تاني اكبر عائدات من  التجارة الخارجية من السوق السودانية خلال ٢٠٢٠/٢٠٢١ في الفترة الحرجة المرتبطة بجائحة كورونا لم تكسب من اقترابها من المكون العسكري في ملف سد النهضة بل انتهزت اثيوبيا الفرصة ليس وقوفا مع الشارع لكن تطابق في الموقف بمسارعتها لتجميد عضوية السودان بالاتحاد الأفريقي في ٢٧ اكتوبر ٢٠٢١ فتمكنت من الوصول للملا الثالث للسد خلال فترة سريان الانقلاب الإمارات العربية هي الأخرى تعثرت بوقوفها مع المكون العسكري فلم تنال السيطرة على ميناء بورتسودان لتكمل مثلث السيطرة بعد مينائي باربرا بأرض الصومال وعصب بأريتريا، حتى صفقة استئجار الفشقة تراجعت بعد أن قطع الانقلاب ما كان يدور بشأنه، المملكة العربية السعودية التي لعبت ادوار محورية منذ ٢٠١٥ بإنهاء تحالف الخرطوم مع إيران ثم ملف رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية في ٢٠١٧، برزت ردود الفعل من زاوية مختلفة جدا وهى الحملة الإعلامية الرافضة لزيارة الوفد الاستثماري لبعض رجال الأعمال إلى نيرتتي بوسط دارفور، فكان مؤشر لجرد الحساب المرتبط بالصورة في ذاكرة الشارع ، روسيا ناورت كثيرا بخصوص القاعدة البحرية لكن شغلتها الحرب مع أوكرانيا وكذلك الصراعات داخل المكون العسكري والحيلولة بينها وموطئ قدم يعزز اتفاق ٢٠١٧ مع الخرطوم على ساحل البحر الاحمر.
باستعراض السجل أعلاه يثور السؤال حول سياسة قطر تجاه السودان عقب انقضاء المنافسات هل ستركن للدخول في السباق ام ستسعي لدور مختلف تحت تأثير التغيرات الإيجابية للمونديال، يجعلها اقرب لمناصرة التحول المدني للشارع السوداني من موقف اصيل عبر بوابة الشعب أو حكومته المدنية واستصحاب الإجابة على سؤال الصورة Image التي يجدر تركها في ذاكرة العلاقات الدولية

كما أشرت فقد نجحت قطر في استضافة المونديال في توقيت ظل العالم أحوج إلى كسر نمط اثار الجائحة، ليكون أمامها اقتناص، اللحظة التاريخية التي أشرعت أبوابها  من أجل الصعود كقوة دولية محصنة باحترام إرادة الشعوب والعلاقات الصديقة .

Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

747 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع