ابحث عن

في مسودة الدستور الانتقالي "الدولة الدينية" تعود من الشباك ..!

شمس الدين ضوالبيت

الأصل في "الدولة الحديثة" أن الحقوق والواجبات فيها تتأسس على "المواطنة". هذا هو الطبيعي والسائد في كل دول العالم اليوم. "الدولة الدينية" لا تتأسس الحقوق والواجبات فيها على المواطنة وإنما على "العقيدة"، تضع الرجال والنساء وغير المؤمنين بها وقادة المجتمع الديني كل في مرتبة معينة بحسب ما تحدده تلك "العقيدة".

فإذا كانت تلك الدولة الدينية تنتمي إلى نطاق المجتمعات المسلمة، فإن السائد، -وليس بالضرورة الصحيح- هو أن حزمة أحكام "الشريعة" هي التي تنظم وتحدد إطار وتراتبيات الحقوق والواجبات. و"أحكام الشريعة"، كما هو معلوم، هي قواعد وإجراءات قانونية ملزمة للمؤمنين، أنزلها الله سبحانه وتعالى ضمن البعثة المحمدية لترتيب الحقوق والواجبات، كما سبقت الإشارة، ولتنظيم المعاملات ومحاربة أفات مجتمع الجزيرة العربية قبل أكثر من 1400 عام. لذلك فهي تنقسم إلى أحكام فرائض (عبادات)؛ وأحكام معاملات (تجارية وغيرها)؛ وأحكام أحوال شخصية، وأحكام عقوبات (الحدود)، للوفاء بهذه المهام ..

هذه الأخيرة –أحكام العقوبات- كان هدفها بالطبع محاربة الجريمة في ذلك المجتمع البدوي. والجرائم التي كانت سائدة، كما في كل مجتمع هي الأفعال التي تنتهك كرامة الناس أو تعتدي على حياتهم وسلامتهم البدنية أو سلامة نسلهم وأسرهم أو تصادر ممتلكاتهم وحقوقهم المادية والمعنوية. عبرت الشريعة عن هذه الأهداف بـ(حفظ الدين؛ حفظ النفس؛ حفظ العقل؛ حفظ النسل؛ وحفظ المال).

نعلم اليوم أن طبيعة الجرائم وأشكالها تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر وعهد إلى آخر، حتى في المجتمع الواحد. وطبيعي لذلك ويترتب عليه أن تختلف العقوبات المحددة للتصدي لتلك الجرائم ومحاربتها. تتطور أساليب المجتمعات في التصدي للجريمة بتقدم المجتمعات وتقدم العلوم والتكنولوجياً. تتطور في هذا السياق مفاهيم العدالة نفسها. العقوبة التي كانت تناسب الجرم في مجتمع وعهد لا تعود كذلك في مجتمع وعهد آخر. ماكان ضرورياً لردع المجرمين في مجتمع وعصر معين، لا يعود ضرورياً، بل يصبح ضاراً في زمن لاحق.. "الحركة" من "تطور" للطبيعيات و"تقدم" للمجتمعات الإنسانية هي السمة الجوهرية للكون الذي نحن جزء منه. هذه اليوم مسلمات بديهية، لا تتطلب برهانا، فقد برهن عليها التاريخ من آلاف الزوايا..

أحكام العقوبات، بجانب أحكام الشريعة الأخرى أدت دورها بامتياز في المجتمع الذي أنزلت عليه وفي الزمن الذي أنزلت فيه. الدليل على ذلك أنها نقلت ذلك المجتمع البدوي من هامش الاجتماع البشري إلى قلب الحضارة الإنسانية، وفي وقت وجيز نسبياً.

الإصرار على الزج بهذه "الأحكام الحدية"، خارج زمانها بقريب من ألف وخمسمائة عام، في مسودة الدستور الانتقالي، من اللجنة التسييرية للمحامين السودانيين، بعد ثورة ديسمبر، لأمر مثير للعجب والحيرة. فئة المحامين والقانونيين عموماً، أكثر من غيرها، يُفترض أنها حاملة وحامية لمبادئ العدالة الجنائية الحديثة، ويُفترض فيها أنها تعلم أكثر من غيرها أن هذه العقوبات الحدية، في شدتها وقسوتها، منافية لحقوق الإنسان، ويحظرها القانون الدولي لحقوق الإنسان، وأنها لم تعد بأي صورة معادلة للجرم المرتكب، لأن بدن الإنسان لم يعد يُحسب بثمن، في مبادئ العدالة الجنائية الحديثة، وأن ورودها في الوثيقة الدستورية لعام 2019، كان واحدا من الأخطاء الكثيرة في تلك الوثيقة، التي أورثها لفظة "معيبة"و التي تخلصت مسودة الدستور الانتقالي من كثير منها..

إضافة الحدود للدستور الانتقالي هو ارتداد صريح عن ثورة ديسمبر. ثورة ديسمبر في أصلها لم تكن ضد الأشخاص الذين حكموا السودان لثلاثين سنة في عهد ’الانقاذ‘. أولئك، مهما كان ظننا في سوءهم، لم يكن هدفهم، عندما استولوا على الحكم، إحداث هذا الضرر البالغ بالدولة والمجتمع. الدمار الذي أحدثوه والفساد الذي ولغوا فيه والحروب التي أشعلوها هي نتاج للسياسات والبرامج التي تبناها وطبقها تنظيمهم بحسم وصرامة طوال ثلاثين عام. أصل هذه السياسات وجوهرها هو "تطبيق الشريعة السلفية"، بما فيها الحدود، بتفاصيلها المذكورة أعلاه، وبفهم يغيب عنه تماماً مبدأئ "التطور" و"التقدم". ونعلم اليوم أنه متى غابت هاتان "المسلّمتان"، عن مذهب أو فكر أو فلسفة حكم، فالجحيم لا محالة هو المأوى..

صحيح جداً أن النار من مستصغر الشرر. لذلك تكفي كلمتان يبدو أنهما عرضيتان في مسودة الدستور، مثل: (إلا حداً أو قصاصاً [الباب الثالث – تقييد عقوبة الإعدام])، لنسف وثيقة الحقوق وبقية الدستور.

"الشريعة السلفية" هي حزمة واحدة من الأحكام والقوانين، يدعم بعضها بعضا، ويستند بعضها إلى بعض، وسيستدعي بعضها المذكور أينما ذُكر باقيها الغائب المسكوت عنه، أينما كان. هذا ما علمه قادة الأخوان المسلمين السودانيين وقالوه وكتبوه صراحة كسبب لدعمهم لقوانين "الشريعة" الأربعة أو الخمسة التي أدخلها نميري، وأعلن بها "خلافته الإسلامية" عام 1983، في ما عُرف بقوانين سبتمبر.لأنهم علموا أن الباب فُتح واسعاً والطريق أصبح سالكاً نحو "الدولة الدينية".
لقد أكد التاريخ بثمن باهظ أنهم كانوا محقين في ما ذهبوا إليه.. في الواقع قامت كل بناية "الدولة الدينية" لاحقاً على تلك "الأحجار الأربعة" التي وضعها نميري لأغراض أخرى..

واليوم حجران؛ (حداً أو قصاصاً)، يفيان بالغرض أيضاً!

Pin It

الذهب ولعنة المحصول النقدي في السودان (1-2)

عبد الله علي إبراهيم

حين أثارت السي إن إن في يوليو الماضي تهريب ذهب السودان ودور شركة مروي قولد الروسية فيه على النطاق الدولي والوطني كانت مواقع إنتاج الشركة نفسها محاصرة باحتجاجات السياسة المحلية عليها في مدينة العبيدية بولاية نهر النيل. فكان أهل المنطقة "ترسوا" الشارع المار بجهة الشركة محتجين على خرقها للسلامة البيئية باستخدام الزئبق والساينايد في عملياتها الإنتاجية. وطالبوا بعشرة في المية من إنتاج الشركة بمنطقتهم من باب المسؤولية الاجتماعية لجبر الضرر من شرور صناعتهم الذي طال عليهم ولم يحرك ساكن الحكومة. وضغطوا على الشركة والحكومة معاً بقفل بلف الماء الناقل للماء للشركة. وحصل المعتصمون على ما طالبوا به وانفضوا.
يُحدث تعدين الذهب أضراراً على البيئة فالناس. وهي اضرار يمكن تسميتها ب"لعنة المحصول النقدي" الذي عليه عماد الدولة في العملة الصعبة. فلم تسلم من اللعنة صناعات أخرى انتجت محصولات نقدية مثل القطن في العشرينات من القرن الماضي والنفط في آخر تسعينات القرن الماضي. ومما فاقم من هذه الاضرار بالمنتجين أن الحكومات، في حالتي استخراج النفط وعدين الذهب، ضربت صفحاً بالكلية عن فرض أي من إجراءات الأمن الصناعي والبيئي.
فجاءتنا البلهارسيا عن طريق الزراعة بالري الدائم عبر القنوات والترع منذ قيام مشروع الجزيرة بوسط السودان في 1926 وما تلاه من مشاريع إلى يومنا. وبلغت الإصابة بها إحصائيا ليومنا 8 مليون نسمة. ومعلوم أن الماء حاضن ليرقة البلهارسيا. ومع أن السودان لم يخل تاريخياً من البلهارسيا إلا أن الري الدائم يجعل الإصابة بها دائمة لا موسمية كما في الري بالمطر والحفائر. ناهيك عن رش القطن الذي يصيب من يتعرض لمواده الكيمائية بالإرهاق وتوتر الحلق والعين والطمام والإسهال.
وجاءتنا صناعة النفط في آخر التسعينات وحلت معها لعنة المحصول النقدي. وليس لعنته في إضراره للبيئة مما لا تخلو منه صناعة من الصناعات. فاللعنة الحق هي ترك هذه الأضرار على الغارب لا ترعى الحكومة فيها السلام البيئي. وما فاقم من شرور النفط أن الصين هي التي غَلَب استثمارها في السودان. وهي من لم يأخذ بالتحوط حتى في بلده لما يترتب من الصناعة على البيئة والناس. ولما تنصلت الدولة عن واجبها الرقابي على الصناعة وآفاتها خرج المجتمع المدني يدرأ أضرارهما عن المجتمعات المحلية. فخرج تجمع شباب حقول البترول في 2012 يحتج على شركة صينية في ولاية غرب كرفان بعد فحوص للدم أثبتت تفشي الرصاص في الدم، وتواتر حالات الإجهاض، وتشوهات الأطفال ضمن أشياء أخرى.
وجاء الذهب كمحصول نقدي بعد انفصال جنوب السودان في 2011 انفصالاً ذهبت به جل صناعة النفط للدولة الوليدة. واستشرى التعدين الأهلي منه والرأسمالي استشراء عمت أخطار صناعته البلد. فالتعدين قائم في 13 ولاية من أصل 16 ولاية. وتعمل فيه 60 شركة منها 15 في جنوب كردفان وحده حسب إحصائيات 2017، ونحو 10 مليون معدن أهلي معروفين ب"الدهابة" في 40 ألف موقع في أنحاء القطر. وربما كان إحصاء المعدنيين الأهليين مجازفاً. ولكن جاء عن تجمع المعدنيين الأهليين بالولاية الشمالية أن عددهم بالولاية وحدها مليون معدن من كافة أرجاء القطر.
التعدين في السودان حالة وبائية مكتملة الأركان، أو "قنبلة موقوتة" كما وصفها أحدهم.
فلاستخلاص الذهب من الحجر يستخدمون الزئبق والساينايد والثيوريا. وكلها معادن عالية السمية. ويحصل المعدن باستخدام الزئبق على أربعين في المية من الذهب من عروقه في الحجر . ويبيع الدهابي النفايات التي حصل منها على ذهبه، وتعرف ب"الكرتة"، مشبعة بالزئبق لشركة لتستخلص الستين في المية باستعمال مزيد من الزئبق والسانيايد. ويستعملون في هذا الاستخلاص آلة تعرف ب"الغسالة" تدور بالكهرباء والمياه. ويدلق الدهابة ماء غسالاتهم حيث هم مع أطنان من الكرتة. وليس صعباً بالطبع تصور المسارب التي تتخذها هذه السميات في البيئة من حولها.

Pin It

الحمر والمسيرية الأرض والعيش الآمن

بقلم : محمد بدوي

فى 31 أغسطس 2022 نشرت وسائل الإعلام تصريحا لنائب والي ولاية غرب كردفان السيد/ آدم كرشوم كشف عن تجميد ترسيم الحدود الإدارية بين محليتي السنوط والنهود الذي تم تحت إشراف فريق ترأسه الدكتور معاذ تنقو رئيس مفوضية الحدود فى 22 يوليو 2022 ، أضاف البيان أن القرار صدر بتوجيه من الفريق الكباشى دفع الله عضو المجلس السيادي الإنتقالي الإنقلابى فى إجتماع ضمه إلى جانب ممثلي للحمر وغياب لممثلي المسيرية أثناء زيارته لغرب كردفان، لابد من الإشارة إلا أن كرشوم عضو قيادي بالحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة مالك عقار و جاء تعينه تنفيذاً لبنود إتفاق سلام جوبا، أن إصدار كرشوم لقرار التجميد ووفقا لبعض المصادر جاء إمتثالا للتوجيه رغم إعتراضه عليه على سند أن قرار الترسيم تم اتخاذه فى وقت سابق لتوليه، قبل الخوض فى مسألة الترسيم وردود فعل القرار اللاحق وطبيعته، هنالك تفاصيل جديرة بالإشارة إليها وفقاً لتصريح نشرته وكالة السودان عن الدكتور تنقو عقب الترسيم ،وهي أن الترسيم إداري وليس قبلي وفقا للحدود السابقة بين المجموعتين فى 1935،1936، وتقرير المارشال 1949 وقانونه العام 1952 إستهدف الترسيم منطقة(الكويكة)، لابد من الإشارة إلى أن الأطراف قد خاضوا صراعا قبل عام من الترسيم فى 21 أغسطس2021 فى منطقة داخل حدود "الكويكة"، عقب التقسيم تسربت خريطة لم يتثن التأكد من صحتها حملت مع الترسيم لفظتي دار حمر ودار المسيرية أثارت سؤال عن الاثر السالب لذلك مقارنة بالماضي الذي كان يطلق على المنطقة ريفي الحمر والمسيرية الذي من الوهلة الاولي يمكن الركون إلى أنه تعزيز للعيش والتمتع المشترك بالموارد.
جاءت ردود فعل الأطراف متمثلة فى تصريح لناظر الحمر منعم ابراهيم منعم منصور نشرته صحيفة سودان تريبون فى 24 اغسطس 2022، كشف أن هدفهم هو إلغاء الترسيم، اتحاد طلاب الحمر لم يختلف عن موقف الناظر بدعمه لتعليق الترسيم، جانب المسيرية استنكر تجميد الترسيم عبر تصريحات وبيانات بدأت بالناظر حريكة عزالدين حريكة، تصريح من رئيس حزب الأمة القومي المكلف، عضو المجلس العسكري فى 1985 ثم ووزير الدولة بوزارة الدفاع الأسبق فضل الله برمة ناصر، ما صدر من الأطراف يمثل جرس انذار يتطلب تدخلا عاجلا لحل الأزمة الراجحة بين الأطراف، طبيعة علاقات الإنتاج لكل من المسيرية والحمر مرتبطة بالنشاط الرعوي بما يجعل جغرافية الصراع تمتد إلى ولايات شمال وجنوب كردفان ومنطقة أبيي، البيانات المتعددة الصادرة كشفت بشكل مثير أن الإدارة الأهلية هي الفاعلة فى الراهن، بالمقابل غياب الأجهزة الرسمية، وغياب مقلق لأي مقترح أو أدوات سلمية فى حل النزاعات، وأن المؤشر يتجه لتعزيز الركون للمواجهة المباشرة بين الأطراف، بصم المشهد على أن القبيلة هي وحدة الانتماء التى هرع نحو مناصرتها قمة الإدارات الأهلية وهو أمر يمكن فهمه، لكن أن ينضم إلى ذلك رئيس حزب الأمة المكلف اللواء معاش فضل الله برمة ناصر و اتحادات الطلاب كشريحة متعلمة من المجموعتين فهذا ما يرفع سقف القلق، هنالك أدوار أخرى جديرة بالاهتمام مرتبطة بالمساهمة في التنمية، ففي مطلع السبعينات صدرت دراسات أنثروبولوجية عن أثر مشاريع التنمية و بنية علاقات الإنتاج لبعض المجموعات الرعوية، فكشفت عن حقائق يمكن أن نستخلص منها أن مشاريع الإستقرار ستنعكس سلبا على بنية الإنتاج لإرتباطها بالتجوال، يعني ذلك المرحال والمسارات أي أن حالة الأمن داخل وخارج مناطقها يجدر صيانته وهو ما ينطبق على المسيرية ايضا اضف إلى ذلك أن المسيرية ظلت فى حالة صراعات داخلية مستمرة منذ 1993 إلى 2015، وصراعات أخرى رغم محدودية نطاقها بمنطقة ابيي شملت الفترات من 2011-2015 ثم من 2019 وحتى الراهن حيث فشل مؤتمر عنتبي )11-13 مايو 2022) بين المسيرية ودينكا نقوك فى الوصول إلى نتائج جوهرية لإصطدام الأطراف بأن دور دولتي السودان وجنوب السودان جوهري فى الحالة.
لماذا جاء الترسيم؟ فى تقديري أن محاولة التسبيب بتفادي تكرار ما حدث فى اغسطس2021 غير مقنع، تصريح الدكتور معاذ أشار إلى أن ملكية الأرض هي لحكومة السودان والأطراف لهم حق الانتفاع، وهنا يثور السؤال عن جدوى الترسيم دون قناعة الأطراف بانعدام سند الملكية؟ الحالة مرتبطة بالأزمة التى صنعها قانون الأراضي لسنة 1970 من تسجيل كافة الأراضي التي لم تسجل بموجب قانون 1925 في إسم حكومة السودان، وهو ينطبق على معظم النزاعات فى أغلب ولايات السودان، أزمة القانون تكمن أنه شمل مناطق كانت جزء من سلطنات وممالك وغيرها علاقات الأرض والملكية الراسخة فيها مرتبطة بالملكية القبلية وفقا للقوانين العرفية التى سادت، بالتالي لا تعير اهتماما لقانون 1970 فكان صياغته و إجازته ونشره فى الجريدة فى الخرطوم جعله بعيدا عن واقع علاقات الأرض فى انحاء متعددة من السودان .
توقيت الترسيم جاء على تماس بداية الخريف او الموسم الزراعي على ان يعقبه مؤتمر للصلح أليس الوضع الطبيعي هو الصلح أو التسوية أو الحل ثم الترسيم فذلك سيتيح فرصة لشرح طبيعة ملكية اية مناطق متنازع حولها، بالإضافة إلى الحقوق الأخرى التى تبيحها حقوق الحيازة والانتفاع، اضافة إلى ذلك ووفقا لتصريح رئيس مفوضية الحدود ان تم الأمر بموافقة قادة الطرفين بالمركز، لعل هذا الغموض يحتاج الى إجلاء هل يعني نظار المجموعتين أم ممثليهم؟ أم قادة من المجموعتين خارج النظار؟ و ما المعني بالمركز هل الخرطوم ام عاصمة غرب كردفان الفولة؟ تستمر الأسئلة لكن لحكومة غرب كردفان عن من قام بطلب الترسيم هل هي الحكومة المحلية كجهة تنفيذية من واجبها ان تمارس صلاحيات مماثلة؟ ام اي من الطرفين المسيرية أو الحمر او معا؟ ام احدهما؟ هذه الأسئلة لاستجلاء كيف بدأ الأمر حتى توضح مسألة العلاقة التنفيذية بين المفوضية وإشراف الجهاز التنفيذي فى السياق ! ومن ناحية ثانية من يحق له تجميد قرار الترسيم هل الجهات السيادية أم التنفيذية، أم جهات أو سلطات أخرى لفض النزاعات مخولة تفويضا إداريا أو قانونيا!
فى تقديري أن الحالة مركبة مرتبطة بنزاع حول الملكية و الحدود ، بالتالي فإن آليات الحل تبدأ بالتعامل مع المنطقة المتنازع حولها و معالجة ما نتج عن الصراعات السابقة، سواء عن طريق المحاسبة القضائية أو القانون العرفي، ومن ثم التعامل مع طبيعة ملكية منطقة النزاع، تنظيم حقوق الانتفاع الناتجة عن الحيازة، تعزيز الإستفادة المنظمة أو المشتركة عبر أدوات مثل مشاريع تنموية أو غيرها تساهم فيها الدولة أو أطراف أخرى، حاولت فهم تفويض مفوضية الحدود فى هذه الحالة حيث أنها استندت على حدود قبلية (1935-1936) فى ظل خضوع السودان لتقسيمات ادارية متعددة عقب العام (1956)
تغييب دور السكان على الارض من الخطوات والمشاركة فى الحل يقود الى عدم الإعتراف بالحلول ويساهم فى تملص الأطراف من النتائج بما يعيد إنتاج الازمة!
أخيرا: لابد من إعادة تحليل المشهد مرة أخرى، من المستفيد من صنع الأزمات و هل المحنة فى منهج الحلول أم غياب دور الدولة؟ هذه الصراعات ظلت تستنزف موارد كافة الأطراف خصما على ناتج علاقات الإنتاج، مع أثر آخر مرتبط بغياب التنمية وتراجع الخدمات مما يجعلها تقود الى الإفقار للموارد الشحيحة فى الأصل و التى تواجهه ظروف سياسية الراهن الإنقلابى وطبيعية كالتغيير المناخي، مع غياب تام لمراصد التنبؤ بالأزمات، لا يوجد رابح فعلي فيما يجري من الطرفين فكلاهما قد يدفع أثمان اعلى قيمة من حق الانتفاع.
التوصيات:
1- السيطرة على التصعيد الإعلامي من الأطراف
2- مراجعة ما تم من ترسيم وفقا للتقسيمات الإدارية التى تمت على خلفية تقسيم /ضم الولايات
3- اعتماد نهج الحلول القانونية في النزاع
4- الإنتباه لمناهج التنمية و مساهمتها فى حل النزاعات، كالمشاريع التنموية المشتركة التى تستهدف المناطق المتنازع عليها وتعزيز مساهمتها فى علاقات الإنتاج لكافة الأطراف.
5- رفع الوعي بحالة ملكية الأرض وحقوق الانتفاع.
6- الحلول المرتبطة بتحويل مناطق النزاع إلى محميات غابية أو زراعية لمصلحة الأطراف .
7- إعادة ترسيم مبكر للمسارات مع توفير الخدمات البيطرية لتقليل الاحتكاك بين المزارعين والرعاة
8- ابتداع آلية للرقابة للحالة الأمنية خلال فترة المسارات بإستخدام وسائل فاعلة كمراكز لقوات أمنية أو استخدام الطائرات العمودية
9- التصدي القانوني للأطراف التى تعمل على استثارة الحالة سلبا عبر النشر الضار.
10- عدم اللجوء الى قانون الطوارئ بقدر تحفيز تسليم السلاح مقابل تعويضات موضوعية.

Pin It

تجدد النزاع في ولاية النيل الأزرق بالسودان: ابارتايد معرفي

عبد الله علي إبراهيم

قد لا نبعد النجعة إن قلنا إن السودان يعيش منذ عقود ربما في "أبارتايد" معرفي يفصل ما بين المدينة والريف. فصفوة المدينة في الحكم والبيروقراطية والسياسة والصحافة اعتزلت الريف وتركته يدير حاله (to its own devices). ففي غياب الديمقراطية الذي تطاول صارت القبيلة هي مركز الدائرة في السياسة. وفي غيبة الأحزاب صارت "الحزب" الوحيد المأذون له بالعمل من وراء حزب الحكومة الواحد في انتخابات المجالس النيابية الولائية خاصة. أما مع الريف "المتمرد" فانتهجت الحكومات في المركز نهج فرق تسد بما يعرف ب"كسر التمرد باقل تكلفة"، أي بعقد أحلاف مع جماعات وأطراف بجهة التمرد تتولى محاربته عن الحكومة.
أما الصفوة في المركز فشملت تحت "النزاع القبلي" كل ارتباك فيه وامتنعت عن النفاذ إلى معرفته. ومن جهة القوى الحداثية خاصة منهم فكفت عن التفكير في قضايا الريف منذ احترقت أصابعها بعد أن ارتدت بالخيبة قراراتها لتغييره من عل على أيام انقلاب نميري اليسارية والتكنوقراطية الباكرة. فتركت هذه الصفوة بعد نكستها الريف بما حمل للإدارة الاهلية أو الحركات المسلحة. وترتب على ذلك كما سنرى مدينة خالية ذهن من المعارف عن الريف لتسترشد بها في إحسان إدارته، أو تعزيز تحالفها معه في ثوراتها الكثيرة. ومن الجهة الأخرى، تجد ريفاً متروكاً ليدير حاله بنفسه. وسنرى تجلي هذا الأبارتايد المعرفي في وقائع تجدد الصراع الدموي في إقليم النيل الأزرق بجنوب شرق السودان منذ أيام.
لم يمر شهر على اتفاق وقف العدائيات بين شعبي السلطنات والهوسا في إقليم النيل الأزرق حتى تجدد الصراع الدموي بينهما في الأول من سبتمبر الجاري. فقتل شعب الهمج من السلطنات اثني عشر رجلاً من الهوسا، وسقط عشرات الجرحى بينما ذُبح آخرون في منازلهم التي أُحرقت، ونزح المئات إلى مدينة الدمازين حاضرة الولاية. ورد الهوسا بقتل أربعة أشخاص وإصابة خمسة وعشرين شخصاً مع حرق للمنازل. وقالت اليونيتامس، بعثة الأمم المتحدة في السودان، إنها تتابع تجدد هذه العنف بقلق عميق. وهو عنف، قي قولها، فشا في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق منذ انقلاب 25 أكتوبر 2022.
لم يعد نقض مواثيق السلام التي تعقدها الحكومة بين الجماعات السودانية مستغرباً. فهذه المواثيق مجرد طقوس سلطانية سماها أحدهم ب"إطفاء الحريق" مؤقتاً. ويتداعى لها الوالي وقائد المنطقة العسكرية ومدير الشرطة وطائفة من الرسميين مع زعماء من الإدارات الأهلية. وتنعقد بين التبريكات واستدعاءات للرحم الوطني والديني الذي آخى تاريخياً بين أطراف النزاع. وهي تبريكات واستدعاءات بمثابة تخليص لجسديهما من "عمل" المُغرض، الذي لا يسمى عادة، ودخل بينهما بالفتنة. فيبدو الصلح بهذا طقساً لطرد الأروح الشريرة التي تلبست الأطراف فأخرجتها عن طورها السلمي إلى الاقتتال وهو كره لها. وكانت الحكومة تولت في بعض الأوقات جبر الضرر من الصراع بدفع دية القتلى من الأطراف إرضاء لهذه الأرواح لتغادر جسدها النازف.
ما جعل اتفاق السلام بين أطراف النزاع في الريف طقساً لا عهداً أنه لا بيروقراطية المركز الحكومي ولا صفوة المدينة ترى لمثل هذا النزاع سبباً. فهو "نزاع قبلي" وكفى. ويثور مثله لأن الاقتتال في طبع الريف، أو لأن "الأهالي" لا يعرفون أفضل منه سبيلاً في الحياة، أو أنهم مأمورون على النزاع ب عقلهم "الرعوي" الغلاب.

Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

232 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع