ابحث عن

تجدد النزاع في ولاية النيل الأزرق بالسودان: ابارتايد معرفي

عبد الله علي إبراهيم

قد لا نبعد النجعة إن قلنا إن السودان يعيش منذ عقود ربما في "أبارتايد" معرفي يفصل ما بين المدينة والريف. فصفوة المدينة في الحكم والبيروقراطية والسياسة والصحافة اعتزلت الريف وتركته يدير حاله (to its own devices). ففي غياب الديمقراطية الذي تطاول صارت القبيلة هي مركز الدائرة في السياسة. وفي غيبة الأحزاب صارت "الحزب" الوحيد المأذون له بالعمل من وراء حزب الحكومة الواحد في انتخابات المجالس النيابية الولائية خاصة. أما مع الريف "المتمرد" فانتهجت الحكومات في المركز نهج فرق تسد بما يعرف ب"كسر التمرد باقل تكلفة"، أي بعقد أحلاف مع جماعات وأطراف بجهة التمرد تتولى محاربته عن الحكومة.
أما الصفوة في المركز فشملت تحت "النزاع القبلي" كل ارتباك فيه وامتنعت عن النفاذ إلى معرفته. ومن جهة القوى الحداثية خاصة منهم فكفت عن التفكير في قضايا الريف منذ احترقت أصابعها بعد أن ارتدت بالخيبة قراراتها لتغييره من عل على أيام انقلاب نميري اليسارية والتكنوقراطية الباكرة. فتركت هذه الصفوة بعد نكستها الريف بما حمل للإدارة الاهلية أو الحركات المسلحة. وترتب على ذلك كما سنرى مدينة خالية ذهن من المعارف عن الريف لتسترشد بها في إحسان إدارته، أو تعزيز تحالفها معه في ثوراتها الكثيرة. ومن الجهة الأخرى، تجد ريفاً متروكاً ليدير حاله بنفسه. وسنرى تجلي هذا الأبارتايد المعرفي في وقائع تجدد الصراع الدموي في إقليم النيل الأزرق بجنوب شرق السودان منذ أيام.
لم يمر شهر على اتفاق وقف العدائيات بين شعبي السلطنات والهوسا في إقليم النيل الأزرق حتى تجدد الصراع الدموي بينهما في الأول من سبتمبر الجاري. فقتل شعب الهمج من السلطنات اثني عشر رجلاً من الهوسا، وسقط عشرات الجرحى بينما ذُبح آخرون في منازلهم التي أُحرقت، ونزح المئات إلى مدينة الدمازين حاضرة الولاية. ورد الهوسا بقتل أربعة أشخاص وإصابة خمسة وعشرين شخصاً مع حرق للمنازل. وقالت اليونيتامس، بعثة الأمم المتحدة في السودان، إنها تتابع تجدد هذه العنف بقلق عميق. وهو عنف، قي قولها، فشا في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق منذ انقلاب 25 أكتوبر 2022.
لم يعد نقض مواثيق السلام التي تعقدها الحكومة بين الجماعات السودانية مستغرباً. فهذه المواثيق مجرد طقوس سلطانية سماها أحدهم ب"إطفاء الحريق" مؤقتاً. ويتداعى لها الوالي وقائد المنطقة العسكرية ومدير الشرطة وطائفة من الرسميين مع زعماء من الإدارات الأهلية. وتنعقد بين التبريكات واستدعاءات للرحم الوطني والديني الذي آخى تاريخياً بين أطراف النزاع. وهي تبريكات واستدعاءات بمثابة تخليص لجسديهما من "عمل" المُغرض، الذي لا يسمى عادة، ودخل بينهما بالفتنة. فيبدو الصلح بهذا طقساً لطرد الأروح الشريرة التي تلبست الأطراف فأخرجتها عن طورها السلمي إلى الاقتتال وهو كره لها. وكانت الحكومة تولت في بعض الأوقات جبر الضرر من الصراع بدفع دية القتلى من الأطراف إرضاء لهذه الأرواح لتغادر جسدها النازف.
ما جعل اتفاق السلام بين أطراف النزاع في الريف طقساً لا عهداً أنه لا بيروقراطية المركز الحكومي ولا صفوة المدينة ترى لمثل هذا النزاع سبباً. فهو "نزاع قبلي" وكفى. ويثور مثله لأن الاقتتال في طبع الريف، أو لأن "الأهالي" لا يعرفون أفضل منه سبيلاً في الحياة، أو أنهم مأمورون على النزاع ب عقلهم "الرعوي" الغلاب.

Pin It

الحمر والمسيرية الأرض والعيش الآمن

بقلم : محمد بدوي

فى 31 أغسطس 2022 نشرت وسائل الإعلام تصريحا لنائب والي ولاية غرب كردفان السيد/ آدم كرشوم كشف عن تجميد ترسيم الحدود الإدارية بين محليتي السنوط والنهود الذي تم تحت إشراف فريق ترأسه الدكتور معاذ تنقو رئيس مفوضية الحدود فى 22 يوليو 2022 ، أضاف البيان أن القرار صدر بتوجيه من الفريق الكباشى دفع الله عضو المجلس السيادي الإنتقالي الإنقلابى فى إجتماع ضمه إلى جانب ممثلي للحمر وغياب لممثلي المسيرية أثناء زيارته لغرب كردفان، لابد من الإشارة إلا أن كرشوم عضو قيادي بالحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة مالك عقار و جاء تعينه تنفيذاً لبنود إتفاق سلام جوبا، أن إصدار كرشوم لقرار التجميد ووفقا لبعض المصادر جاء إمتثالا للتوجيه رغم إعتراضه عليه على سند أن قرار الترسيم تم اتخاذه فى وقت سابق لتوليه، قبل الخوض فى مسألة الترسيم وردود فعل القرار اللاحق وطبيعته، هنالك تفاصيل جديرة بالإشارة إليها وفقاً لتصريح نشرته وكالة السودان عن الدكتور تنقو عقب الترسيم ،وهي أن الترسيم إداري وليس قبلي وفقا للحدود السابقة بين المجموعتين فى 1935،1936، وتقرير المارشال 1949 وقانونه العام 1952 إستهدف الترسيم منطقة(الكويكة)، لابد من الإشارة إلى أن الأطراف قد خاضوا صراعا قبل عام من الترسيم فى 21 أغسطس2021 فى منطقة داخل حدود "الكويكة"، عقب التقسيم تسربت خريطة لم يتثن التأكد من صحتها حملت مع الترسيم لفظتي دار حمر ودار المسيرية أثارت سؤال عن الاثر السالب لذلك مقارنة بالماضي الذي كان يطلق على المنطقة ريفي الحمر والمسيرية الذي من الوهلة الاولي يمكن الركون إلى أنه تعزيز للعيش والتمتع المشترك بالموارد.
جاءت ردود فعل الأطراف متمثلة فى تصريح لناظر الحمر منعم ابراهيم منعم منصور نشرته صحيفة سودان تريبون فى 24 اغسطس 2022، كشف أن هدفهم هو إلغاء الترسيم، اتحاد طلاب الحمر لم يختلف عن موقف الناظر بدعمه لتعليق الترسيم، جانب المسيرية استنكر تجميد الترسيم عبر تصريحات وبيانات بدأت بالناظر حريكة عزالدين حريكة، تصريح من رئيس حزب الأمة القومي المكلف، عضو المجلس العسكري فى 1985 ثم ووزير الدولة بوزارة الدفاع الأسبق فضل الله برمة ناصر، ما صدر من الأطراف يمثل جرس انذار يتطلب تدخلا عاجلا لحل الأزمة الراجحة بين الأطراف، طبيعة علاقات الإنتاج لكل من المسيرية والحمر مرتبطة بالنشاط الرعوي بما يجعل جغرافية الصراع تمتد إلى ولايات شمال وجنوب كردفان ومنطقة أبيي، البيانات المتعددة الصادرة كشفت بشكل مثير أن الإدارة الأهلية هي الفاعلة فى الراهن، بالمقابل غياب الأجهزة الرسمية، وغياب مقلق لأي مقترح أو أدوات سلمية فى حل النزاعات، وأن المؤشر يتجه لتعزيز الركون للمواجهة المباشرة بين الأطراف، بصم المشهد على أن القبيلة هي وحدة الانتماء التى هرع نحو مناصرتها قمة الإدارات الأهلية وهو أمر يمكن فهمه، لكن أن ينضم إلى ذلك رئيس حزب الأمة المكلف اللواء معاش فضل الله برمة ناصر و اتحادات الطلاب كشريحة متعلمة من المجموعتين فهذا ما يرفع سقف القلق، هنالك أدوار أخرى جديرة بالاهتمام مرتبطة بالمساهمة في التنمية، ففي مطلع السبعينات صدرت دراسات أنثروبولوجية عن أثر مشاريع التنمية و بنية علاقات الإنتاج لبعض المجموعات الرعوية، فكشفت عن حقائق يمكن أن نستخلص منها أن مشاريع الإستقرار ستنعكس سلبا على بنية الإنتاج لإرتباطها بالتجوال، يعني ذلك المرحال والمسارات أي أن حالة الأمن داخل وخارج مناطقها يجدر صيانته وهو ما ينطبق على المسيرية ايضا اضف إلى ذلك أن المسيرية ظلت فى حالة صراعات داخلية مستمرة منذ 1993 إلى 2015، وصراعات أخرى رغم محدودية نطاقها بمنطقة ابيي شملت الفترات من 2011-2015 ثم من 2019 وحتى الراهن حيث فشل مؤتمر عنتبي )11-13 مايو 2022) بين المسيرية ودينكا نقوك فى الوصول إلى نتائج جوهرية لإصطدام الأطراف بأن دور دولتي السودان وجنوب السودان جوهري فى الحالة.
لماذا جاء الترسيم؟ فى تقديري أن محاولة التسبيب بتفادي تكرار ما حدث فى اغسطس2021 غير مقنع، تصريح الدكتور معاذ أشار إلى أن ملكية الأرض هي لحكومة السودان والأطراف لهم حق الانتفاع، وهنا يثور السؤال عن جدوى الترسيم دون قناعة الأطراف بانعدام سند الملكية؟ الحالة مرتبطة بالأزمة التى صنعها قانون الأراضي لسنة 1970 من تسجيل كافة الأراضي التي لم تسجل بموجب قانون 1925 في إسم حكومة السودان، وهو ينطبق على معظم النزاعات فى أغلب ولايات السودان، أزمة القانون تكمن أنه شمل مناطق كانت جزء من سلطنات وممالك وغيرها علاقات الأرض والملكية الراسخة فيها مرتبطة بالملكية القبلية وفقا للقوانين العرفية التى سادت، بالتالي لا تعير اهتماما لقانون 1970 فكان صياغته و إجازته ونشره فى الجريدة فى الخرطوم جعله بعيدا عن واقع علاقات الأرض فى انحاء متعددة من السودان .
توقيت الترسيم جاء على تماس بداية الخريف او الموسم الزراعي على ان يعقبه مؤتمر للصلح أليس الوضع الطبيعي هو الصلح أو التسوية أو الحل ثم الترسيم فذلك سيتيح فرصة لشرح طبيعة ملكية اية مناطق متنازع حولها، بالإضافة إلى الحقوق الأخرى التى تبيحها حقوق الحيازة والانتفاع، اضافة إلى ذلك ووفقا لتصريح رئيس مفوضية الحدود ان تم الأمر بموافقة قادة الطرفين بالمركز، لعل هذا الغموض يحتاج الى إجلاء هل يعني نظار المجموعتين أم ممثليهم؟ أم قادة من المجموعتين خارج النظار؟ و ما المعني بالمركز هل الخرطوم ام عاصمة غرب كردفان الفولة؟ تستمر الأسئلة لكن لحكومة غرب كردفان عن من قام بطلب الترسيم هل هي الحكومة المحلية كجهة تنفيذية من واجبها ان تمارس صلاحيات مماثلة؟ ام اي من الطرفين المسيرية أو الحمر او معا؟ ام احدهما؟ هذه الأسئلة لاستجلاء كيف بدأ الأمر حتى توضح مسألة العلاقة التنفيذية بين المفوضية وإشراف الجهاز التنفيذي فى السياق ! ومن ناحية ثانية من يحق له تجميد قرار الترسيم هل الجهات السيادية أم التنفيذية، أم جهات أو سلطات أخرى لفض النزاعات مخولة تفويضا إداريا أو قانونيا!
فى تقديري أن الحالة مركبة مرتبطة بنزاع حول الملكية و الحدود ، بالتالي فإن آليات الحل تبدأ بالتعامل مع المنطقة المتنازع حولها و معالجة ما نتج عن الصراعات السابقة، سواء عن طريق المحاسبة القضائية أو القانون العرفي، ومن ثم التعامل مع طبيعة ملكية منطقة النزاع، تنظيم حقوق الانتفاع الناتجة عن الحيازة، تعزيز الإستفادة المنظمة أو المشتركة عبر أدوات مثل مشاريع تنموية أو غيرها تساهم فيها الدولة أو أطراف أخرى، حاولت فهم تفويض مفوضية الحدود فى هذه الحالة حيث أنها استندت على حدود قبلية (1935-1936) فى ظل خضوع السودان لتقسيمات ادارية متعددة عقب العام (1956)
تغييب دور السكان على الارض من الخطوات والمشاركة فى الحل يقود الى عدم الإعتراف بالحلول ويساهم فى تملص الأطراف من النتائج بما يعيد إنتاج الازمة!
أخيرا: لابد من إعادة تحليل المشهد مرة أخرى، من المستفيد من صنع الأزمات و هل المحنة فى منهج الحلول أم غياب دور الدولة؟ هذه الصراعات ظلت تستنزف موارد كافة الأطراف خصما على ناتج علاقات الإنتاج، مع أثر آخر مرتبط بغياب التنمية وتراجع الخدمات مما يجعلها تقود الى الإفقار للموارد الشحيحة فى الأصل و التى تواجهه ظروف سياسية الراهن الإنقلابى وطبيعية كالتغيير المناخي، مع غياب تام لمراصد التنبؤ بالأزمات، لا يوجد رابح فعلي فيما يجري من الطرفين فكلاهما قد يدفع أثمان اعلى قيمة من حق الانتفاع.
التوصيات:
1- السيطرة على التصعيد الإعلامي من الأطراف
2- مراجعة ما تم من ترسيم وفقا للتقسيمات الإدارية التى تمت على خلفية تقسيم /ضم الولايات
3- اعتماد نهج الحلول القانونية في النزاع
4- الإنتباه لمناهج التنمية و مساهمتها فى حل النزاعات، كالمشاريع التنموية المشتركة التى تستهدف المناطق المتنازع عليها وتعزيز مساهمتها فى علاقات الإنتاج لكافة الأطراف.
5- رفع الوعي بحالة ملكية الأرض وحقوق الانتفاع.
6- الحلول المرتبطة بتحويل مناطق النزاع إلى محميات غابية أو زراعية لمصلحة الأطراف .
7- إعادة ترسيم مبكر للمسارات مع توفير الخدمات البيطرية لتقليل الاحتكاك بين المزارعين والرعاة
8- ابتداع آلية للرقابة للحالة الأمنية خلال فترة المسارات بإستخدام وسائل فاعلة كمراكز لقوات أمنية أو استخدام الطائرات العمودية
9- التصدي القانوني للأطراف التى تعمل على استثارة الحالة سلبا عبر النشر الضار.
10- عدم اللجوء الى قانون الطوارئ بقدر تحفيز تسليم السلاح مقابل تعويضات موضوعية.

Pin It

شكراً للماضي .. ومرحباً بالمستقبل!

فضيلي جمّاع:

   مما أحمده لبعض الأصدقاء والصديقات ، أنهم يخرجون على النمط. فيرفدوني مع تحيات الصباح لحناً ينقلني من المكان البعيد إلى حضن الوطن - رد الله غربتنا وغربة الوطن. قد يعود بي اللحن إلى ذكريات توزّعت بين أمكنةٍ ومدن. فتلوح لي من نافذةِ الذاكرة وجوهٌ عشتُ وإيّاهم أحلى سويعاتِ العمر. نعم هي النوستالجيا ) الحنين إلى الماضي والأهل والمكان) ! ليس العيب في أن نجتر الذكريات، بل العيبُ أن نظلّ أسرَى الماضي. أما الحنينُ إلى لحنٍ طروب ، أو اجترار سيرةٍ عطرة لصحبة باعد بيننا وبينهم سفرُ المكانِ والزمان، فذاك بعضُ ما يعيدُ للعمر نسمة ترفعه من حفرة حاضرٍ مثل الحاضرِ  الكئيب الذي نعيشه ويعيشه وطننا الحبيب! 
   من مناحي الجمال أن عطّرت صباحي اليوم الأخت الصديقة إيمان حمزة بلدو بباقة أغنيات سودانية أحسبها سمو اللحن وقمة الكلمة. وإيمان بلدو لمن لا يعرفها باحثة بارعة في المجال الأكاديمي والسياسي. تجيد الإنجليزية - ماعون أبحاثها - بدرجة رفيعة. وهي فوق ذلك تحفظ أشعار الحقيبة ونسبةَ هذه الأغنياتِ لشعرائها ومطربيها. اليوم كما قلت بعثت لي مع الصباح الباكر باقة من تسجيلاتٍ ، لمطربين ملأوا زمانهم حتى فاض. ولأنها تعرف أنّ عثمان حسين يمثل نقطة ضعفي في التطريب، فقد زودت القائمة بأربعة من أغانيه. كذلك كان من بين باقة الصباح  أغنية "الأوصفوك" للرائع خضر بشير وهي من كلمات محمد بشير عتيق. وأغنية "يا ليل أبقالي شاهد" وهي من كلمات شاعر الحقيبة الكبير صالح عبد السيد (ابو صلاح). ولك أن تتخيل كيف يتحور المزاج في غربة الدار التي طالت. وكيف ينثال الحنين إلى الأهل والصحاب والوطن في صباح أوروبي غائم، واللحن الطروب يحملك من ذكرى إلى أخرى. ومن مناسبةٍ حلوة المذاق عشتها مع من حرمك التّسفارُ والغربةُ لقاءهم لسنين وسنين إلى أخرى أجمل وأحلى.  
    كانت خاتمة جلسة الإستماع الصباحية لأغنية "أجمل أيامي"، كلمات الشاعر حسين بازرعة وألحان وأداء اللحن الخالد عثمان حسين. أستمعت إليها أكثر من مرة. صباح غائم ، وهدوء على غير العادة في واحدة من كبريات مدن العالم – لندن. يبدو أن الهدوء صباح اليوم بسبب عطلة الأحد حيث تقل حركة الناس والمواصلات وضجيج المصانع فيها! حاولت ذاكرتي أن تستعيد بعض أجمل الأيام ، لكن حاضرنا التعيس قطع انسياب الذكريات. يقضي الواجب أن أتصل هاتفياً برفيقة الدرب والمنفى "أم شيراز "؛ التي طارت إلى القاهرة لتكون إلى جانب شقيقتها التي ستجري عملية جراحية - شفاها الله. وكم أحزنني حين وصفت لي كيف أن مراكز الفحص الطبي في القاهرة تعج بالمرضى السودانيين بصورة محزنة حقاً. أضف إليهم الأسر والشباب الذين تكتظ بهم شوارع ودور السكن في المدن المصرية. تفكرت في الحال لبرهة. هل كتب على شعبنا الطيب الصبور أن يعيش معاناة سببها فئة من أراذل بنيه، سرقوا لقمة عيشه دون خجل ؟ 
    وإما نظرت للوجه المضيء للقمر ، وتفكرت في الشارع الذي رأيته بأم عيني في آخر زيارة لي للوطن ، أدركت بأننا رغم الهوان الذي يعيشه شعبنا اليوم، ورغم توزع الملايين من السودانيين في أرجاء هذا الكوكب ، إلا إنّ من سرقوا البسمة من وجوه أطفالنا ، ومن حاولوا باستمرار سرقة واحدة من كبريات الثورات في مطلع هذا القرن – ثورة 19 ديسمبر ، ما حصدوا غير الخيبة والفشل. هذا الشعب صعب المراس. وقد أثبت تاريخه المكتظ بالأحداث الجسام أنه في  كل جولة من صولاته ضد الطغاة يحسم الجولة منتصراً مرفوع الرأس. هل أذكر من الرجال والنساء من علموا المستبد أنّ نهايته الحفرة التي يحفرها لشعبنا؟ عندي قائمة ببعض الأساطير التي ما تزال حية في تاريخنا – ونحن نذكرهم لأنّ شباب الشارع الثائر لفوق الثلاث سنوات في بلادنا هم حفدة أولئك الأبطال. إنّ هؤلاء الأشبال من أصلاب أولئك الأسود. قائمة قصيرة أرفعها في وجوه صغار  الآلهة الذين أوردوا شعبنا وبلادنا هذا الدرك. ذهب الخديوي وابنه اسماعيل وعميلهم الدفتردار وبقيت سيرة المك نمر عبر الأجيال. عاد المستعمر لبلاده وبقيت أسطورة الشاب محمد احمد المهدي الذي قاد ثورة هزمت الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. رحل المستعمر وبقيت قصص السلطان عجبنا وود حبوبة والسلطان تاج الدين رمزاً للشجاعة والإقدام وفداء الأوطان. صمتت الزغاريد إلى حين ، لكن كلما ارتفعت في حشود شارعنا الثائر زغاريد الكنداكات،  تذكرنا مهيرة بت عبود ورابحة الكنانية والبطلة مندي بنت السلطان عجبنا. 
  أقول لكل محبط: إنّ ما نعيشه من إذلال لشعبنا، ومن مسغبة وضعف حال، إنما هو سحابةُ صيفٍ سرعان ما تنقشع. لستُ من بائعي الوهم. بل أدّعي بأني أقرأ التاريخ جيداً. وأراهن على المستقبل. أقول إنّ مع قتلة أطفالنا الحاضر البائس ، لكن معنا المستقبل. لن تخيب أمة أنجبت في ماضيها القريب إسماعيل الأزهري والمحجوب وحسين الهندي وبوث ديو ووليام دينق نيال وجون قرنق دي مابيور، وتمخض وجدانها المبدع عن التجاني يوسف بشير وملكة الدار محمد ومحمد المهدي المجذوب وعبد الله الطيب والطيب صالح وآخرين كثر . إن أمة تنجب سرور وكرومة والكاشف ومحمد وردي ومصطفى سيد احمد .. إن أمة تنجب هؤلاء ليست بعاقر. إنها مسألة وقت. مسألة وقت فقط،  وستطلع شمس إستقلالِ سودانِنا الجديد. 
وأخيراً .. شكراً للماضي ، ومرحباً بالمستقبل.

فضيلي جمّاع
لندن
04-9-2022

Pin It

الذهب ولعنة المحصول النقدي في السودان (1-2)

عبد الله علي إبراهيم

حين أثارت السي إن إن في يوليو الماضي تهريب ذهب السودان ودور شركة مروي قولد الروسية فيه على النطاق الدولي والوطني كانت مواقع إنتاج الشركة نفسها محاصرة باحتجاجات السياسة المحلية عليها في مدينة العبيدية بولاية نهر النيل. فكان أهل المنطقة "ترسوا" الشارع المار بجهة الشركة محتجين على خرقها للسلامة البيئية باستخدام الزئبق والساينايد في عملياتها الإنتاجية. وطالبوا بعشرة في المية من إنتاج الشركة بمنطقتهم من باب المسؤولية الاجتماعية لجبر الضرر من شرور صناعتهم الذي طال عليهم ولم يحرك ساكن الحكومة. وضغطوا على الشركة والحكومة معاً بقفل بلف الماء الناقل للماء للشركة. وحصل المعتصمون على ما طالبوا به وانفضوا.
يُحدث تعدين الذهب أضراراً على البيئة فالناس. وهي اضرار يمكن تسميتها ب"لعنة المحصول النقدي" الذي عليه عماد الدولة في العملة الصعبة. فلم تسلم من اللعنة صناعات أخرى انتجت محصولات نقدية مثل القطن في العشرينات من القرن الماضي والنفط في آخر تسعينات القرن الماضي. ومما فاقم من هذه الاضرار بالمنتجين أن الحكومات، في حالتي استخراج النفط وعدين الذهب، ضربت صفحاً بالكلية عن فرض أي من إجراءات الأمن الصناعي والبيئي.
فجاءتنا البلهارسيا عن طريق الزراعة بالري الدائم عبر القنوات والترع منذ قيام مشروع الجزيرة بوسط السودان في 1926 وما تلاه من مشاريع إلى يومنا. وبلغت الإصابة بها إحصائيا ليومنا 8 مليون نسمة. ومعلوم أن الماء حاضن ليرقة البلهارسيا. ومع أن السودان لم يخل تاريخياً من البلهارسيا إلا أن الري الدائم يجعل الإصابة بها دائمة لا موسمية كما في الري بالمطر والحفائر. ناهيك عن رش القطن الذي يصيب من يتعرض لمواده الكيمائية بالإرهاق وتوتر الحلق والعين والطمام والإسهال.
وجاءتنا صناعة النفط في آخر التسعينات وحلت معها لعنة المحصول النقدي. وليس لعنته في إضراره للبيئة مما لا تخلو منه صناعة من الصناعات. فاللعنة الحق هي ترك هذه الأضرار على الغارب لا ترعى الحكومة فيها السلام البيئي. وما فاقم من شرور النفط أن الصين هي التي غَلَب استثمارها في السودان. وهي من لم يأخذ بالتحوط حتى في بلده لما يترتب من الصناعة على البيئة والناس. ولما تنصلت الدولة عن واجبها الرقابي على الصناعة وآفاتها خرج المجتمع المدني يدرأ أضرارهما عن المجتمعات المحلية. فخرج تجمع شباب حقول البترول في 2012 يحتج على شركة صينية في ولاية غرب كرفان بعد فحوص للدم أثبتت تفشي الرصاص في الدم، وتواتر حالات الإجهاض، وتشوهات الأطفال ضمن أشياء أخرى.
وجاء الذهب كمحصول نقدي بعد انفصال جنوب السودان في 2011 انفصالاً ذهبت به جل صناعة النفط للدولة الوليدة. واستشرى التعدين الأهلي منه والرأسمالي استشراء عمت أخطار صناعته البلد. فالتعدين قائم في 13 ولاية من أصل 16 ولاية. وتعمل فيه 60 شركة منها 15 في جنوب كردفان وحده حسب إحصائيات 2017، ونحو 10 مليون معدن أهلي معروفين ب"الدهابة" في 40 ألف موقع في أنحاء القطر. وربما كان إحصاء المعدنيين الأهليين مجازفاً. ولكن جاء عن تجمع المعدنيين الأهليين بالولاية الشمالية أن عددهم بالولاية وحدها مليون معدن من كافة أرجاء القطر.
التعدين في السودان حالة وبائية مكتملة الأركان، أو "قنبلة موقوتة" كما وصفها أحدهم.
فلاستخلاص الذهب من الحجر يستخدمون الزئبق والساينايد والثيوريا. وكلها معادن عالية السمية. ويحصل المعدن باستخدام الزئبق على أربعين في المية من الذهب من عروقه في الحجر . ويبيع الدهابي النفايات التي حصل منها على ذهبه، وتعرف ب"الكرتة"، مشبعة بالزئبق لشركة لتستخلص الستين في المية باستعمال مزيد من الزئبق والسانيايد. ويستعملون في هذا الاستخلاص آلة تعرف ب"الغسالة" تدور بالكهرباء والمياه. ويدلق الدهابة ماء غسالاتهم حيث هم مع أطنان من الكرتة. وليس صعباً بالطبع تصور المسارب التي تتخذها هذه السميات في البيئة من حولها.

Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

99 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع