ابحث عن

ثم لا

الجميل الفاضل
إنهم مستدرجون!!
ان من يتصورون ان ثورة امتدت لثلاثة واربعين شهرا، بلا توقف ولا هوادة، علي مر الفصول.. تحت هجير شمس السودان الحارقة، وزمهرير برده القارس، وسحائبه الماطرة الهتون.
لأربع سنوات او تكاد، جرب خلالها قتلة محترفون، كل انواع القتل في الناس هنا، قنصا، ودهسا، فرديا وجماعيا، بل ومجازرا كتلك التي وقعت علي مرأي ومسمع، امام مقر قيادة الجيش.
لكن هكذا رغم عظم كيد الخائنين، ظلت جمرة الثورة المقدسة متقدة، يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه بالطبع نار.
رغم انف الذين ظنوا انهم، باتوا اليوم قاب قوسين او أدني، من اعادة عجلة التاريخ الي اوضاع ما قبل ابريل ٢٠١٩.
او كما تصور امين حسن عمر علي الأقل، في تغريدة تقول: (سنعود بحول الله واذنه الي كل الساحات، رضي من رضي، وغضب واكتئب من غضب.. سنعود بعد ليل "قحت" الدامس مثلما يعود القمر البدر، يطلع على الدياجير والظلمة الظلماء، فيحيل ليلها كنهارها، فتصبح البلاد مقمرة).
وعلي ذات الظن الذي جري به لسان علي احمد كرتي وهو يقول: (نحن في الطريق إن شاء الله الى تطبيع الأوضاع عامة، لنخرج من هذه "الحالة الاستثنائية").
تلك الحالة التي قال كرتي: انها ستأتي بغير الأوضاع التي كانت في بدايات هذا التغيير من التنمر الذي تابعتموه جميعا، والظلم الفادح الذي وقع على الالاف، وكثير مما جري، مضيفا نسأل الله أن يكون قد انقضي هذا التاريخ.
فالدياجير والظلمة الظلماء، التي يرغب امين حسن عمر في إحالة ليلها كنهارها، لتصبح البلاد مقمرة من جديد، كما كانت، وكما يريد هو بالتأكيد.. هي "حالة الثورة" التي اطفأت نورا اتاحته "الإنقاذ"، لأمين قبل أن تظلم الدنيا بوجهه اليوم.
كما إن "الحالة الاستثنائية" التي كانت مسرحا للتنمر، والظلم الفادح عند كرتي هي أيضا "حالة الثورة" ذاتها، التي يرى ان تاريخها قد انقضى، وأنهم الان في طريقهم لتطبيع تلك الأوضاع.
وبمثل هذا الظن الكذوب تستدرج يد القدرة في العادة، من تشاء.. من حيث لا يعلم، الي حيث هي تشاء.
فالاقدار تكتب عادة بمداد الأحبار السرية، التي لن تبدي خطوطها ومنعرجاتها الدقيقة، سوي بعد سطوع شمس نفاذها في النهاية.
إذ أن خطوط القدر كالعلامات المائية، التي لا ترى في العملات الورقية، لأول وهلة.
فميكانزمات القدر المخبوءة، تدفع علي شاكلة ما سيرد، كل مقدور الي احضان القدر الذي ينتظره، "تسليما وتسلما"، في موعد لا يتقدم ولا يتأخر، كما يمكن ان يستنبط من قول رب العزة:
“إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم، ۚ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ۙ ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ۗ وإن الله لسميع عليم”.
ثم علي قرار لمحة أخري ذات مغزي مختلف هو بالضرورة، يقول سبحانه وتعالي: “إذ يريكهم الله في منامك قليلا، ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم ۗ إنه عليم بذات الصدور”
ولكي يقضي الله امرا كان مفعولا بالحتم والضرورة، فانه يعرض كذلك مثل هذا النموذج الثالث، المغاير والمحفز، للمواجهة في ذات الوقت:
“وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، ويقللكم في أعينهم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور”.
ترجع الأمور ليس باماني من يجزم هنا بعودته بعد ليل "قحت" الدامس.
ولا بتطلع من يسعي لتطبيع الأوضاع علي ما كانت عليه، قبل الثورة او "الحالة الاستثنائية" كما يتصورها، بل علي يد قادرة، من شأنها ان تقضي أمرا كان مفعولا لا محالة.
لام.. الف
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.
قرآن كريم
حالتي
أشهد الا انتماء الآن
إلا أنني في الآن لا
Pin It

جوبا مالك علي: الحركة الشعبية ومنعطفات اتفاق السلام

بقلم : محمد بدوي

حملت وسائل الأخبارتصريح للفريق مالك عقارعضو المجلس السيادي الإنتقالى ورئيس لأحد فصائل الحركة الشعبية لتحريرالسودان تلخص فى أن الحركة لم تبتعث ممثلا لها فى اجتماعات تحالف قوي الحرية والتغيير بالمقابل جاء الرد على التصريح ببيان صادر باسم الحركة الشعبية بتوقيع" ياسرعرمان نائب عقار فى رئاسة الحركة،، الحاج بخيت، احسان عبدالعزيز و منال الأول " تلخص فى موقف مناهض " الحركة جزء من الحرية والتغيير وستظل تناهض الانقلاب " .

ما يمكن استخلاصه من التصريحين وصول الحركة الشعبية الى مرحلة انشقاق مرتبطة بالمواقف بين الرئيس ونائبه الذي شغل منصب المستشار السياسي لرئيس الوراء السابق الدكتور عبدالله حمدوك ،مثل أحد مفاوضي تحالف الحرية والتغيير مع المكون العسكري حتى يوليو2022، كان عرمان قد أعتقل صبيحة انقلاب 25 أكتوبر2021 وفقا لمصادر موثوقة فشلت محاولات دولة جنوب السودان وعقار من اطلاق سراحه انذاك،لموقف عرمان الرافض على شرط التزامه موقف الحركة المرتبط بوجودها فى السلطة أى ما يفهم منه عدم مهاجمته و انتقاده للانقلاب.

موقف عقار جاء يعبر عن النظر الى مكاسب اتفاق السلام 2022 على النيل الازرق بمنح الحكم الذاتي، ما يسند هذا يتطلب الرجوع الى بداية أحداث 2011 اي بداية الحرب بين الخرطوم والحركة شمال وفقا لمصادر موثوقة أن عقار لم يكن على وفاق مع فكرة الحرب الثانية وهو ما جعله ينتظر لأشهر حاكما بالنيل الأزرق الى أن باغته هجوم الخرطوم لعل هذا يظهر أكثر وضوحا فى مساعيه للتوقيع على الاتفاق الذى عرف ب(نافع-عقار) فى 2011 باديس ابابا الذي تنكرت له الخرطوم بعد وقت قصير.

بالنظر الى بداية الحرب و اثرها فى النيل الازرق اظهرت استرخاء تاما من قبل عقار بما قاد الى الى اعتقال 126 من عضوية الحركة من العسكريين ومحاكمتهم بالاعدام لاحقا، الى جانب خروج عقار ومجموعة اخرى من عضوية الحركة بعد مجهودات الى مناطق امنه،عند اشتعال الحرب كانت النيل الازرق الاضعف عسكريا مقارنة باقليم جبال النوبة قيادة الفريق عبدالعزيز الحلو، الى ان اسعفت الحركة بالنيل الأزرق بعض المعارك التى عززت من قدرتها العسكرية لكن جاء ذلك بعد أن نفذت الخرطوم هجوم العقاب الجماعي الذى نتج عنه حالة واسعة من النزوح ، فى توقيت مثلت فيه جبال النوبة واقعا مختلفا من الناحية العسكرية برز فى الاستعداد المبكر لأسوء الإحتمالات من قبل الخرطوم.
رغم ان كلا المنطقتين تعتبران مغلقتان جغرافيا سوي الحدود مع الحليف التاريخي جنوب السودان تمكن الحلو من الاستفادة من الزخم التاريخي والميزة العسكرية لمجموعات المنطقة بتدشين حملة تجنيد واسعة حيث شكلت جبال النوبة منطقة تماس بدات منها الحركة الام الحرب فى 1983،سعي قطاع الشمال منذ 2010 الى خلق تحالف للمعارضة بدا بوثيقة الفجر الجديد ثم تحالف الجبهه الثورية تحالف نداء السودان فى 2014 وجميعها ارتبطت بمحفز تجربة تحالف الاجماع الوطني 2009 الذى دشن بجوبا انذاك،لكن ظلت الانقسامات تتري لاسباب كيفية قيادة التحالفات والتباينات الايدلوجية بين المكونات حتي جاء هجوم ابوكرشولة 2014 ليضع حدا لتمضي الحركة الشعبية فى التصدي لهجمات الخرطوم حتي 2017 بما شكل زحما تاريخيا ارتبط بظروف موضوعية مرتبطة بجبال النوبة تاريخيا وسياسيا وعسكريا.

وهنا يطل السوال هل كانت تجربة الحرب 2011 تم الاستعداد لها سياسيا بتوازن بين المنطقتين مع الاخذ فى الاعتبار بعض المالات فى اتفاق السلام الشامل من واقع ارتباطه بالمشورة الشعبية ،و لا سيما ما برز من مسالة مسارات المساعدات الانسانية التى ظلت الى ان تم اول اختراق لها فى الفترة الانتقالية، ايضا تقديم العسكري على الشق السياسي فبعد بداية الحرب في 2011 فقدت الحركة عدد مقدرا من عضويتها المدنية التي مثلت قوام عريض فى قطاع الشمال و ركزت على الحسم العسكري والتفاوض الذي ظل يصل الى الصفر فى جولاته التى فاقت ال15 جوله.
سارعت الحركة بارسال وفد الى الخرطوم فى 2019 عقب سقوط نظام المؤتمر الوطني فاشعل ذلك التنفاس بين مكونات الحركات فانتهي الامر بمشاركة اجسام مختلفة الى بداية ملف السلام فى ظل المجلس العسكري الامر الذي انتهي الي اتفاق جوبا 2020 الذي مثل مسرح الخلاف الان بين عقار وعرمان وهو جهد شاركا فيه هذا الموقف ليعد الى الاذهان مسالة صنع السلام والموقف من التحول الديمقراطي.

فبالرجوع الي اتفاق السلام 2005 فمكاسبة قد تكون اقل من التى خرج بها اقليم النيل الازرق من اتفاق جوبا 2020 فى الاتفاق من نسب منها 40% من الموارد بالاقليم لمودة 10 سنوات 3-% من المناصب التنفيذية و حاكم للاقليم و نائب حاكم بغرب كردفان وغيرها ،فقد عاد عقار فى 2021 لما تركه ببسطام فى 2011 و لا سيما ن انقسام الحركة فى 2017 الذي لا مجال للخوض فى اسبابه احدث انقساما جعله يفقد اراضي كانت تحت سيطرته و اضعاف عسكري جعله يسارع فى مايو 2022 الى بدء التريبات الامنية لقواته لاكمال نصوص الاتفاق.

المشهد الراهن كان يمكن ايجاد مدخل لحله عبر نصوص الاتفاق و النص الذي يعطي الحق فى التحول لحزب مدني لان الازمة الان سياسية بامتياز لايمكن ممارستها عبرمواقف متناقضة فى السلطة وفى المعارضة معا، ياتي هذا الموقف ليشكل اعادة للتقزم لفكرة الحركة الاساسية المرتبطة تحرير السودان وفق المفاهيم التى فى منفستوها و ها هو المشهد يثير اشئلة ماذا بعد.

هل سيقود الامر الى اعادة النظر فى العلاقة بين الحلو وعقار مرة اخري استنادا لعدم وجود اسباب موضوعية حول خلاف فكري كسبب للانقسام انذاك.
أخيرا: صدرت اليوم عدة بيانات من مكاتب مختلفة للحركة داخل السودان تؤيد موقف الفريق الذى يقوده الأستاذ ياسر عرمان، بحثت كثيرا لأجد تلك البيانات فى أحداث النيل الأزرق الأخيرة فكانت محصلتي صفراً كبيرا، و ها أنا أنتظر كغيري من عرمان مقال تضامن مع ضحايا النيل الأزرق فقد تعودنا منك موقفاً فى كل الأحداث التى مرت على البلاد منذ ثورة 1924 وعلى عبداللطيف، وهاهي الأخبار تحمل معلومات عن إستقالة وزيرة الحكم الإتحادي بثينة دينار من منصبها إنحيازالقضايا السلام و ضد الإنقلاب، مما يجعلنا نقول لولا إتفاق جوبا لتأخير الإنقلاب أن لم يحدث .

Pin It

الشية مقابل المثلجات من الفائز؟

الخرطوم سلاميديا

بقلم: سفيان التجاني

في الثالث من أغسطس ٢٠٢٠م استفزتني تغريدة علي الفيسبوك دفعتني لكتابة هذه الأسطر علي صفحتي في ذاك الوقت؛ وبعد ثلاث سنوات هاهي تطفو على التايملاين Tilmeline من باب الذكرى. وبعد إجراء بعض التعديل قررت اعادة نشرها بدافع ما "اشبه اليوم بالبارحة".

عصفت بي تلك التغريدة لأستحضر قصة رواها لي استاذي وصديقي البروف الكيني إدوين نجوثو Edwin Nyothu؛ يقول  "أن أحد أساتذته البروفيسورات كان يعمل  بإحدى الجامعات البريطانية إبان حقبة الثمانينات من القرن الماضي. وكعادة الأفارقة في الغربة، اننا دوماً نبحث عن ونستلز بكل ما يذكرنا بلادنا الأم. ففي أثناء تواجد البروف في لندن إعتاد الذهاب في ايام الاحد إلى مطعم انجليزي يقدم الشواء علي الطريقة الكينية (نجاماجوما Nyamachoma مفردة باللغة السواحلية تعني اللحم المشوي). يومذاك وصديقنا البروف يستمتع بتناول طبقه المفضل ذاك، عند زاويته حيث الطاولة التي اعتاد الجلوس عليها وحده، كانت هناك سيدة ايرلندية تبدو عليها علامات الكبر المترف، تجلس على الطاولة المجاورة وأمامها كأس من المثلجات (Ice Cream). وكانت تتناول مثلجاتها باستمتاع فائق علي الطريقة الارستقراطية اللندنية. كان صديقنا البروف، قد شارف الإنتهاء من إلتهام شواءه وهو عند قمة متعته بسحق العظام الهشة (المقرشة)، صدرت منه أصوات احتدام المعركة بين أضراسه والعظام التي تدهسها؛ عندذاك أصيبت السيدة الارستقراطية بحالة من الاشمئزاز، ربما ظنت في نفسها "ما الذي أتي بهذا الرجل الاسود إلى مكان كهذا؟" غقررت إستفزازه ربما تستطيع أن تثير حنقه مثلما أفسد عليها متعة مثلجاتها في ذاك الاحد. دون أن تلتفت نحوه، بادرته بكل الازداء الانجليزي، وهو ما زال في معركته المحتدمة تلك "ماذا تاكل الكلاب عندكم في افريقيا؟" و بسرعة فائقة، تنم عن معدن و أدراك الرجل وثقته بنفسه رد عليها قائلا "ايس كريم"؛ هنا جن جنون العجوز الارستقراطية وصاحت في وجه النادل وهي تصرخ كيف يجرؤ هذا الزنجي على شتمي؟ اتصلوا على الشرطة. لسوء حظها كان صاحب المطعم ذو الاصول الاسيويو قد مر قربهما وقتما رمت بسؤالها لصديقينا. فأتى وأخبرها أنها علي خطأ، ما كان لها ان تتعرض للرجل بهكذا اسلوب، فهو ايضا من الزبائن المداومين على المطعم مثلها ولا فرق أو تفضيل عنده لزبون على آخر، بغض النظر أي ميزات او مميزات".

العبرة من هذه الحكاية، أن قضية العنصرية ليست بأمر مستحدث. باتت اجيالاً سبقت جيلنا تكافح فيها، بيد أن طرق و وسائل الكفاح لم تختلف كثيراً بين جيل وآخر. فهل لنا أن نبتدع أدوات مختلفة للتعاطي مع هذه الفضية؟

كان في مقدور البروف الكيني أن يثور ويشجب ويفعل أشياء عدة للتعبير والتنديد على الإساءة التي تعرض لها من قبل تلك السيدة الارستقراطية؛ إلا أنه فضل أن يتعامل مع الوضع بطريقة مشابهة للمبتدرة نفسها مما آثار حنقها وجعلها تصرخ وتهيج وتملأ المطعم ضجيجاً وعواء.

نحن كعنصر افريقي في السودان نعرف من نحن ونعتز بماهيتنا ونتعامل مع الآخر المختلف كأنه ولي حميم؛ وإلا لما استطاعت القوميات الاروبية والعربية والاسيوية العيش معنا وانصهار العديد منها مع شعوبنا. لذا لا يجب أن نكترث كثيراً لما يقال ويعتمل ضدنا من قبل ضعاف النفوس ودعاة الدماء النقية، تماشياً مع المثل القائل "الكلب ينبح والجمل ماشي". علينا أن نركز أكثر في كيف ننهض بأنفسنا، بدلاً عن إهدار طاقاتنا للدفاع عنوشيئ ليس بنا، نحن لسنا بعبيد لأحد.

اليوم وأنا اتابع مآلات الحال في السودان؛ ازيد اصرارا اكثر على ضرورة انتهاج اسلوب اخر لمحاربة العنصرية ومجابهة خطاب الكراهية بدلا عن كل ما بامكانه اثارة العنف البدني الدامي. بمعنى؛ ماذا لو انتهجنا ما يمكن فهمه من بيت الشعر "يخاطبي اللئيم بكل قبح وآبى ان اكون له مجيبا" ليس بالضرورة ان يعني ذلك اننا جبناء لكن هو التسامي.

لا للعنصريه، لا للعنف ومعا للسلام

سفيان التحاني

Pin It

هيمنة الكيزان وسقوط مشروع الهامش والتحرير العريض

هيمنة الكيزان وسقوط مشروع الهامش والتحرير العريض

 

الخرطوم - عبدالرحمن العاجب

المشاريع السياسية لحركات الكفاح المسلح الدارفورية كانت مشاريع طموحة، وكانت تلك الحركات لها تصور متكامل لإدارة البلد وشكل الحكومة وعلاقة الدولة بالمواطنين والحقوق والواجبات التي يجب أن تؤمنها الدولة لهم، ولكن سرعان ما سقطت تلك المشاريع السياسية بمجرد دخول القبيلة في حلبة الصراع ومحاولة استخدامها كرافعة سياسية، وظهر ذلك الأمر جلياً في مؤتمر حسكنيتة الذي بسببه انقسمت حركة تحرير السودان إلى حركتين، ومنذ ذلك الحين بدأ مشروع التحرير العريض في السقوط رويداً رويدا.

ومعلوم للجميع أن حركة تحرير السودان بقيادة مناوي تتبنى مشروع التحرير العريض وشعارات ( الحرية - الوحدة - السلام - العدالة - الديمقراطية) وتدعو الحركة إلى بناء سودان جديد حر ديمقراطي يسع الجميع، فيما لا يختلف مشروع حركة العدل والمساواة كثيرا عن مشروع التحرير وتتبنى حركة العدل مشروع الهامش والمظالم التاريخية ونصرة أهل الهامش واسترداد حقوقهم وتحقيق التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية.

بينما يمكن وصف حركة تجمع قوى التحرير برئاسة الطاهر حجر بأنها حركة بلا هوية أو رؤية سياسية وذلك لأنها تكونت من منشقين جاءوا من عدة حركات لايجمع بينهم مشروع سياسي موحد إلا التحالف الجبهوي في حده الأدنى، ولكنها أيضا تتبنى نفس المشاريع السياسية التي تبنتها حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة.

ويؤكد الواقع الماثل أن حركات الكفاح المسلح الدارفورية تنكرت لمبادئها الاساسية التي قامت من أجلها، وأهم هذه المبادئ نصرة المهمشين والمظلومين، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وفيما يبدو أن هذه هي الشعارات الرئيسية التي دفعت ملايين السودانيين بشكل عام والدارفوريين بشكل خاص للإنضمام لها أو الإلتفاف حولها أو تأييدها أو التعاطف معها والإنحياز لصفها بصور شتى بحكم أن الغالبية الساحقة من السودانيين مهمشين، وكان شعب دارفور يتوقع أن تفتح تلك الحركات نافذة جديدة للمهمشين في سودان جديد تسوده المساواة والعدالة الاجتماعية، ولكن ذهبت تلك الأحلام والأمنيات أدراج الرياح.

هيمنة الكيزان على مفاصل الحركات المسلحة الدارفورية أصبح واقع يمشي بين الناس ولا يستطيع أن ينكره أحد، وعندما نتحدث عن الكيزان نعلم جيداً أن الكوز سلوك وليس انتماء سياسي أو عقائدي أو فكري أو ديني فالكوزنة هي سلوك، والكوز هو ذلك الشخص الانتهازي المتستر بالدين والقبيلة لظلم الاخرين وأكل أموالهم بغير وجه حق، والكوز هو من يستغل الدين والقبيلة لاغراض الدنيا ومنها الوصول إلى الحكم ليس لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، ولكن لجمع الثروات والاستمتاع بالسلطة والمنصب.

وبعد توقيع اتفاقية جوبا للسلام في الثالث من أكتوبر 202‪0م دخلت حركات الكفاح المسلح الدارفورية في مرحلة جديدة من عمر الدولة السودانية، ولكنها سرعان ما تنكّرت لمبادئها الأساسية بمجرد تنفيذ بند المشاركة السياسية في الجهاز التنفيذي ومجلس السيادة وتنصيب مني أركو مناوي حاكماً لإقليم دارفور في 10 أغسطس 2021م ومنذ تعيين مناوي حاكما للإقليم ظل الواقع على الأرض في حالة تراجع للأسوأ.

وإذا عقدنا مقارنة بين الأوضاع في إقليم دارفور قبل تعيين مناوي وبعد تعيينه، فإننا نجد أن الأوضاع قبل تعيين مناوي كانت أفضل بكثير، وبعد تعيينه ازدادت وتيرة الانفلات الأمني، وشهدت ولايات دارفور صراعات عنيفة وتفلتات أمنية، كما لم تشهد جميع الولايات تنفيذ مشاريع تنموية وظل الوضع كما هو عليه في الماضي بل إزداد سوء.

ويؤكد الواقع أن حكومة إقليم دارفور والتي لاوجود لها في الواقع أصبحت حكومة الرجل الواحد (حكومة مناوي) هو الذي يعين الموظفين بحسب مزاجه الشخصي، ويذكر أنه قام بإعلان التنافس على وظيفة منصب الأمين العام لحكومة إقليم دارفور، وبعد ان تقدم المتنافسون بطلباتهم وقبل انتهاء فترة التقديم وفرز الطلبات قام في مخالفة صريحة لما أعلنه بنفسه بتعيين الدكتورة توحيدة عبدالرحمن يوسف وهي متخصصة في الغابات في منصب الأمين العام لحكومة الإقليم، وتفيد المتابعات أن هناك عدد من أبناء دارفور الكفاءات تقدموا لهذه الوظيفة، ولكن مناوي بسلوكه الكيزاني أراد أن يأتي بكادر ضعيف للسيطرة عليه وقد كان.

ومضى مناوي إلى أكثر من ذلك عندما قام بتعيين لجنة خبراء إقليم دارفور والتي تتكون من ( 12) عضواً والمدهش أن لجنة الخبراء بها ثلاثة قيادات بارزة من قيادات النظام المدحور وحزبه المقبور (المؤتمر الوطني) ومعظم أعضاء لجنة الخبراء كانوا يعملون مع النظام البائد في مواقع مختلفة.. فكيف للجنة خبراء بهذا الشكل أن تقدم استشارات مفيدة تقود إلى معالجة مشكلات إقليم دارفور وشعبه المكلوم والمغلوب على أمره، وزاد مناوي الطين بلة عندما قام بتعيين (2) من أعضاء لجنة الخبراء في حكومة إقليم دارفور وهم أيضا من الكيزان.

وبالنسبة للبعض فأنه يجب أن يتم حذف إسم تحرير السودان من الحركة ليصبح إسمها حركة مناوي وهو الإسم الحقيقي بحسب الواقع بعد أن أصبحت الحركة بلا مجلس تحرير ثوري وبلا مكتب سياسي وبلا مكتب تنفيذي وأصبحت حركة الرجل الواحد (حركة مناوي) وأصبحت لاتختلف كثيراً عن حزب المؤتمر الوطني المقبور الذي كان يترأسه المخلوع عمر البشير الذي كان يسيطر بشكل كامل على الحكومة والحزب.

وازداد الأمر سوء داخل حركة مناوي بعد أن سيطر عليها إبن أسرته الكوز المعروف نور الدائم طه مساعد مناوي للشؤون الإعلامية والذي أصبح الرجل الثاني داخل الحركة بعد الرئيس، ولعب طه دور كبير في سيطرة الكيزان على الحركة والمؤسسات التنفيذية التي تديرها الحركة عندما ساهم مع وزير المعادن محمد بشير أبو نمو والذي لم نتأكد من حقيقة انتمائه للحركة الإسلامية حتى الان، ساهم طه في تعيين الكوز المعروف بجنوب دارفور وكادر الأمن الشعبي سليمان أحمد حامد الشهير ب(كنج) مديراً لشركة سودامين التابعة لوزارة المعادن، وتعيين الكوز وكادر الامن الشعبي أحمد هارون التوم مديراً تنفيذيا لمكتب وزير المعادن، ويذكر أن الرجلين ليس لهما علاقة بمؤسسات الحركة وعملية تعيينهم تمت بصلة القرابة.

وبعد ثورة ديسمبر المجيدة وضعت الحركات الدارفورية يدها على ايدي من سفكوا دماء الشعب السوداني واغتصبوا حرائره وحرقوا القرى بدارفور وجبال النوبة وكردفان وبإعتصام القيادة العامة للجيش السوداني، وابتعدت الحركات عن خطها الثوري في التغيير الجذري للدولة، وأصبحت تساوم على مبادئها، ولم يعد هنالك فرق بينها وبين الكيزان الذين افنينا العمر للنضال ضدهم.

بلغ تنكر حركتي (تحرير السودان والعدل والمساواة) لمبادئها مداه في التحالف مع جنرالات البشير ومليشياتهم في خطوة اقل ما يمكن أن يقال عنها انها خيانة لدماء شهداء التحرير والهامش، وظلت تلك الحركات تتنكر بشكل مستمر لمبادئها، فبينما يتحدث قادتها عن التحول الديمقراطي والدولة المدنية والسودان الجديد نجدهم في الضفة الأخرى يتمسكون بدولة السودان القديم واللجنة الأمنية (جنرالات البشير).

وظلت تلك الحركات في حالة تناقض مستمر وفي الوقت الذي تتحدث فيه عن إزالة التهميش، نجدها تتحالف مع من تسببوا في التهميش، ولا يستقيم عقلاً التمسك بالدولة القديمة وفي ذات الوقت الحديث عن إزالة التهميش، ومعلوم أنه لا يمكن انهاء التهميش ما لم يتم تفكيك الدولة القائمة واقتلاعها من جذورها وبناء دولة جديدة على أسس جديدة يتفق حولها جميع السودانيين.

َولايخفى على أحد دعم حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة لانقلاب 25 أكتوبر، ومواقف وكلاء الانقلاب (مناوي ونور الدائم طه وجبريل إبراهيم وسليمان صندل وأردول) المعلنة ضد حكومة الفترة الانتقالية ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك، ووقوفهم المعلن ضد لجنه إزالة التمكين، والمطالبة بشكل معلن بالإنقلاب.

موقف قيادات الحركات الداعم للمكون العسكري في الحكومة الانتقالية، يمثل الوقوف ضد مشروع الهامش والتحرير العريض، والقوى الداعية للتغيير، ويمثل وقوف ضد التحول المدني الديمقراطي، ويمثل خيانة لدماء شهداء الثورة السودانية الذين قدموا ارواحهم من اجل العزة و الكرامة والحرية للشعب السوداني.

الشعب السوداني كان يتوقع من الحركات المسلحة الدارفورية التمسك بطرحها الأساسي في بناء دولة جديدة وتنفيذ مشروع السودان الجديد الذي يسع جميع السودانيين، وكان يجب على تلك الحركات أن تسعى بشكل جاد للتغيير الجذري، وتعمل مع السودانيين وأحزابهم السياسية على بناء دولة جديدة يسود فيها حكم القانون ويتساوى فيها الجميع، ولكنها اختارت أن تورث النظام المقبور وتمضي في خطه وتتبنى سلوكه الكيزاني المعلوم للجميع.

وكان للشعب السوداني آمال عراض وأشواق في أن تكون الحركات المسلحة الدارفورية هي رأس الرمح في التغيير الجذري وبناء سودان الحرية والسلام والعدالة الذى حلمت به الاجيال بعد ثورة ديسمبر المجيدة، سودان تسوده المحبة وتظلله العدالة الإجتماعية ويعيش سكانه في سلام مع بعضهم ومع الآخرين، وكنتيجة للممارسات الكيزانية التي أصبحت سمة أساسية للحركات المسلحة الدارفورية من الطبيعي ان تنقطع العلاقة بين أهل الهامش والحركات، ولم يعد المهمشين أنفسهم ينظرون للحركات بأنها تجسد آمالهم في السودان الجديد الذي كانوا يحلموا به.

وبعد المتاهة التي دخلت فيها حركات الكفاح المسلح الدارفورية وادمان الفشل الذي لازمها لفترات طويلة يمكن القول إن الإصلاح السياسي لتلك الحركات خرج من كونه فرض كفاية ليصبح فرض عين عليها.. وسيبقى أمام تلك الحركات خياران أما ان تبدأ وبشكل عاجل في تحقيق مشروع إصلاح سياسي جاد يمكنها من مواكبة المتغيرات السياسية والاجتماعية أو تذهب إلى مذبلة التاريخ غير مأسوفا عليها.

Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

163 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع