ابحث عن

الانتقال الديموقراطي وأزمة الحكم فى السودان(12)

الخرطوم:حسين سعد

قبل ان نواصل في سلسلة مقالاتنا نترحم علي أرواح شهداء جريمة فض  ميدان الاعتصام في التاسع والعشرون من رمضان الموافق الثالث من يونيو الحالي ،ونتمني عاجل الشفاء للجرحي والمصابين،ونقول وبثقة كبيرة إن ثورتنا مستمرة ، قوية، ثابتة على المبدأ ، قادرة على قبول التحدي وتحقيق التغيير المنشود والوصول الي غاياتها المرجوة، قوية على الصعاب، مسنودة بنضالات وشجاعة شعبنا الجسور، وأهدافه المصيرية في الوحدة والحرية والتغيير،لقد كانت ثورة شعبنا في كل مكان ولا تزال ، والثوار مصممون على قبول التحديات وقهرها وإنزال الهزيمة بها وإبقاء رايات شعبنا عالية خفاقة تحمل أماني الأمة، وتطلعاتها وحق جماهيرنا في النضال من أجل وحدتها وحريتها،وتقدمها،فالشعب السوداني لم يتعود أن ينحني لأحد أو يرضخ لتهديد ، أويجزع أمام تخويف ، أويركع أمام معتد ،فثورة ديسمبر الظافرة لم تكن حدثا عابرا في تاريخ السودان، بل كانت معلما بارزا في هذا التاريخ ،وسوف تستمر هذه الثورة شعب السودان بثواره وشفاتته، وكنداكاته ،لن يترجعوا إلى الوراء ، ولن يترددوا في التقدم إلى الأمام، ولا تخاذل أمام التحديات ، ولا انكفاء أمام الصعوبات ، شجاعة شعبنا الذي ضحي بالدم من أجل الوطن قادر، ومستعد للتضحية بالمزيد فهذه التضحيات لن تذهب سدى، لقد بنينا صرحا شامخا من الجسارة نعتز بها ،وتدفعنا لتقديم المزيد من التضحيات،وكما خرج آباؤنا، وأجدادنا في الماضي في ثورتي أكتوبر وأبريل منتصرين على صعاب، وتحديات سابقة ، سنخرج نحن من الصعاب الحالية منتصرين عليها ، مرفوعي الرؤوس موفوري الكرامة مواصلين السير على طريق تحقيق أهدافنا الوطنية، والقومية ،والحفاظ على كرامة الوطن، وعزته.

أزمة الحكم:

ولمواصلة الحديث في أزمة الحكم يتسأل الاستاذ الجامعي الدكتور جمعة كندة : ما هى السبب أو الأسباب الرئيسة لأزمة الحكم فى السودان؟ بمعنى أخر لماذ ظل السودان أسير للدورة السياسية الخبيثة: حكم مدنى، ثم عسكرى، ثم مدنى فعسكرى مرة أخرى؟ تأتى أهمية الإجابة على هذا السؤال فى الوقت الراهن الذى ينادى فيه الكل بالتحول الديموقراطى والتداول السلمى للسلطة. إن لم نجاوب علي هذا السؤال بوضوح شديد، فلا داعى للمناداة بالتحول الديموقراطى، لأن ذلك سيكون حلقة أخرى من حلقات الدورة الخبيثة فى السياسة السودانية. بالرغم من أن الإجابة على هذا السؤال أمر فى غاية التعقيد، ولكن فى تقديرنا هناك سببان أساسيان يشكلان معظم - إن لم يكن كل - الإجابة، وهما:

(أ)الوصف أو التشخيص الخاطئ، لما يسمى الدورة الخبيثة (المدنية والعسكرية) للأنظمة التى حكمت، وما تزال تحكم السودان.

(ب)غياب الممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب السودانية، بما فيها التى ترفع شعار الديموقراطية مبدأ لحكمها.

الوصف أو التشخيص الخاطئ للأنظمة:

تشير أدبيات المتعلقة بالسياسة السودانية، بأن السودان مر بحقب من حكم مدنى من 1956-1958، ومن 1964-1969، ومن 1985-1989. وتخللت تلك الحقب المدنية (الديموقراطية) حقب عسكرية من 1958-1964، ومن 1969 إلى 1984، ومن 1989 إلى 2019م. قد يختلف الناس، ولكن بالنسبة لى المعيار الذى يميز بين النظامين، هو ما إذا كان رأس الدولة ببزة عسكرية أم مدنية؟ بالطبع الحقبة الأخيرة هى الأكثر جدلية إذ يراها أنصارها بأنها ديموقراطية قح، بينما تراها المعارضة بأنها شمولية حتى النخاع، وبين هذين الموقفين توجد آراء سياسية متعددة لصالح أو ضد أى من الموقفين نقطتى الرئيسة هنا هى أن وصف تلك الحقب بالعسكرية تارة، ومدنية تارة اخرى، يعتبر وصفا غير دقيق بكل المعايير السياسية. فإذا نظرنا بالتدقيق إلى الكيفية التى ينتقل بها الحكم من حقبة مدنية الى عسكرية، نجد ظاهرها إنقلاب عسكرى على نظام مدنى، ولكن باطنها عبارة عن شكل من أشكال تسليم السلطة عبر خطة متفق عليها بين الطرفين، مثل عبود-خليل فى 1958، أو عبر خطة بين حزب مدنى حاكم أو فى المعارضة، مع مجموعة من العسكريين المسيسين: نميرى فى عام 1969من جهة، والبشير والجبهة الإسلامية فى عام 1989من جهة أخرى نماذجا. فى كل هذه النماذج، تجد تحالف ساسة مدنيين فى الحكم أو المعارضة، مع عسكريين مسيسين أثناء الخدمة العسكرية. وختم كندة حديثه بقوله أن كل حكومات الحقب العسكرية المذكورة أعلاها، مسنودة علنا أو فى الخفاء بحزب سياسى، أو هى حكومات تقودها خلطة عسكرية مدنية متحالفة. وبالمثل فإن حكومات الحقب المدنية مسنودة علنا أو فى الخفاء، بعسكريين فى الخدمة لكنهم مسيسون حزبيا. بالطبع لا يمكن وصف هذه الحقب بأنها عسكرية ومدنية، لأن العسكري هو مدنى فى ذات الوقت، والعكس صحيح.

غياب الديموقراطية :

يشير التأريخ السياسى للسودان، أن هناك جيل ما، فى معظم الأحزاب التى حكمت السودان، قد شارك بشكل ما فى الإنقلاب على نظام مدنى ديموقراطى. وهذا يطرح تسأؤلات مشروعة حول صدقية وإيمان مثل هذه الأحزاب، تأريخيا وحاليا، بمبدأ الديموقراطية. أما الشاهد الحى والأقوى والدال على عدم إيمانها بالديموقراطية، فهو عدم ممارسة قيادة الأحزاب للديموقراطية داخل مؤسسة الحزب، ويترتب على ذلك بقاء الزعيم فى قيادة الحزب مدى الحياة. وهنا لابد من الإشارة وبصورة عابرة إلى كتاب البروفسيور عطا البطحانى (أزمة الحكم في السودان / أزمة هيمنة أو هيمنة أزمة). اذ يقدم الكاتب حججا دامغة تجاة عجز الطبقة الحاكمة في السودان فى إرساء قواعد وممارسة للحكم الراشد منذ الاستقلال، وبالتالى إخفاقها المتكرر في كيفية تداول السلطة سلميا. أخفقت وستظل تخفق لطالما جل الأحزاب وقياداتها مزدوجة المواقف، حينما يتعلق الأمر بالديموقرطية، إذ تنادى بها شعارا للحكم، لكنها لا تبطقها داخل مؤسساتها الحزبية. إن كان هناك ممارسة ديموقراطية فعلية داخل الأحزاب - كل الأحزاب الحاكمة والمعارضة – فكيف نفسر بقاء رؤساء الأحزاب فى قيادة الحزب مدى الحياة؟ والغريب فى الأمر، أن يتصدر القائمة شخصيات تعتبر فى نظر الكثيريين فى الداخل والخارج، أنها رموز للديموقراطية والحرية والإصلاح السياسى فى السودان. لا تسألنى عن قائمة الأسماء فهذا عصف ذهنى بسيط ولكن نتائجه مذهلة للغاية، ويمكن لأى شخص عادى أن يتحقق من ذلك. إن الأمانة تقتضى بأن نقول لا فرق بين زعيم يبقى فى قيادة الحزب فى المعارضة - أى خارج سدة الحكم - لعشرات السنين مع آخر يجلس على سدة الحكم والحزب معا لعشرات السنين. إن أى زعيم حزب جالس على كرسى الزعامة لمدة لا تحدها إلا يوم مماته، فإن تشدقه بالديموقراطية يعتبر فى هذه الحالة نوع من أنواع النفاق السياسى الصريح. إن التداعيات السياسية لغياب ممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب كثيرة، ولكن أهم مظاهرها وهى: إستمرار الدورة الخبيثة لأزمة الحكم، وعدم الأستقرار السياسى، وغياب ثقافة التداول السلمى للسلطة فى السودان،بجانب إحتكار شخصيات سياسية محددة داخل كل حزب لفرص الإستوزار (أى أن يصبح وزيرا). وتتحرك مثل هذه الشخصيات المحظوظة، من وزارة إلى أخرى، كمن يتحرك من كرسى إلى آخر داخل منزله الخاص. ولطالما حزبه حاكم، فهو وزير وبالتالى فإن التعديلات الوزارية تعنى لمثل هؤلاء فرصة أخرى لتجديد بقاءه فى نفس الوزارة، أو التحرك إلى وزارة أخرى.فضلا عن نفاذ الصبر الأحزاب المعارضة بإعتبارها هى حكومات ظل مرتقبة، تنتظر دورها دون ظهور اى بوادر فى الأفق بقرب مجئ دورها، لأن كلما يمر الزمن تتشبث مجموعة محدودة داخل الحزب الحاكم بالسلطة أكثر، فيتململ الكل داخل الحزب الحاكم والمعارضة معا،ظهور إنشطارات أميبية داخل الاحزاب، بما فيها الأحزاب الحاكمة. أعطونى حزبا واحدا كبيرا أو صغير، ديموقراطيا أو شموليا لم يطاله إنقسامات مركبة. تلك الأنقسامات لا بسسب خلافات جوهرية فى المبادئ والفكر أو المنهج. ولكن بسبب الضيق من الرأى والرأى الأخر داخل الحزب لغياب الديموقراطية، وبسبب أن كل واحد من أعضاء الحزب ينتظر دوره ليشارك فى الحكم. ولكن ذاك الدور لن يأتى أصلا،وختم كندة حديثه بقوله إن أزمة الحكم فى السودان، هو بسبب غياب ممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب السياسية، بما فيها تلك التى ترفع الديموقراطية شعارا ومبدأ للحكم، دونما تطبيق داخل مؤسسات الحزب، سواء كان فى المعارضة أو فى سدة الحكم. ولن ينصلح حالنا فى السودان، ما دام الساسة يمارسون نفاقا سياسا نهارا وجهارا بإسم الديموقراطية- وبكل أسف يجدون طيلة هذه المدة من يصدقونهم على الدوام.

  فشل تجارب الانتقال:

وفي الاثناء ارجع الاستاذ الجامعي الدكتور عطا البطحاني فشل تجارب الانتقال في الماضي بسبب العجز البنيوى لكتلة القوى المسيطرة تاريخيا فى السودان (الطبقة السياسية الحاكمة) واعادة انتاج هذا العجز فى كل مرحلة انتقال لنظام ديمقراطى جديد، وهناك العديد من الشواهد التى تؤكد على أن الطبيعة البنيوية للازمة السياسية فى السودان، وتأرجح ميزان القوى المصاحب لفترات الانتقال ساهمت ، مع عوامل اخرى ، فى فشل فترات الانتقال وهشاشة الترتيبات الدستورية الشىء الذى اكدته عجز الحكومات الانتقالية عن تحقيق المهام المطروحة والمنوط بانظمة الانتقال تحقيقها (وحدة الوطن، الدولة المدنية-العصرية، التنمية الاقتصادية). فتؤجل المهام لفترات قادمة ، وتزداد مهام الانتقال صعوبة ومهمة الترتيبات الدستورية تعقيدا بقيام الانظمة العسكرية بتصفية القوى الوطنية ذات التوحه الديموقراطى وتآكل مؤسسات الدولة فى كل مرة تعتلى فيها كراسى السلطة حيث يبز كل نظام عسكرى فى هذا المجال من سبقوه، فيتآكل الرصيد التراكمى (للديموقراطية والثقافة المدنية) ، وبالتالى تتعاظم المهام وتقصر القامة،ولفت الي ان هذا العجز البنيوى تمثل فى ابقاء حكومات ما بعد الاستقلال فى الخمسينيات من القرن الماضى على الهياكل الموروثة من الاستعمار (تحرير لا تعمير) وثق كل من ابيل الير فى كتابه (نقض العهود والمواثيق) ومنصور خالد في كتابه (النخبة السودانية وادمان الفشل) لتنكر السلطات السياسية للاسس الدستورية المتفق عليها. وتشمل قائمة التنكر سلسلة طويلة من الاحداث المتراكمة تشير الى ان الطبقة الحاكمة لم تتعلم من تجاربها شيئا. وعلى السبيل المثال نذكر منها انه وفى اوائل الخمسينيات من القرن الماضى، وعند تصاعد نضال الحركة الوطنية المطالبة باستقلال السودان وافقت القوى السياسية فى جنوب البلاد على وحدة السودان شريطة النظر فى طلب اقليم الجنوب لحكم فيدرالى يعترف للجنوب بهويته الثقافية المميزة فى اطار وحدة البلاد. وتجاهلت الاحزاب السياسية الشمالية الحاكمة هذا الامر حتى اندلاع التمرد عام 1955 وتفاقمة بصعود الحكم العسكرى الاول لسدة الحكم عام 1958. وبعد ثورة أكتوبر عام 1964 ومقررات المائدة المستديرة عام 1965 تراجعت القوى السياسية الشمالية مرة اخرى عن تعهداتها باقرار حكم ذاتى للجنوب، وجاء الحكم العسكرى الثانى عام 1969 ليعترف للجنوب فى بيان 9 يونيو بحقوقة وهويته الثقافية فى اطار سودان واحد، لكن وحتى بعد اقرار الحكم الذاتى واستتباب السلام خلال 1972-1983 جاء الحاكم العسكرى مرة اخرى ومن جانب واحد ليقوض اتفاقية السلام الموقعة عام 1972. ويتجلى مثال اخر للتنصل فى التراجع والنكوص عن تنفيذ البنود الخاصة بالتحول الديمقراطى المنصوص عليها فى اتفاقية السلام عام 2005 والدستور الانتقالى للقترة الانتقالية من 2005- 2011م. وحول الانتقال الديمقراطي يقول القائد عبد العزيز الحلو  ان الديمقراطية المعنية في منظورنا هي ديمقراطية تعددية بالضرورة إستنادا لحقائق واقعنا الزاخر بالتنوعات والتعددات الثقافية والدينية .. بل وطول بقاء الديكتاتوريات الفاشية جاثمة على صدر الشعوب السودانية والتشوهات التى ألحقتها  ببنية الوعي الإجتماعي والسياسي بالبلاد.عليه فإن أهم الشروط الواجب توفرها لتهيئة المناخ من أجل ممارسة ديمقراطية صحيحة ونافذة هي الإتفاق على علمانية الدولة .. وتحييد الدين، بل وإبعاده عن الساحة السياسية. وبالتالي يمكن أن تتأتى عملية الإرتفاع بمسألة الهوية الجمعية .. أي هوية الدولة من الظرفية الى التاريخ.. لتصبح لكل هويته   والدولة للجميع ،وعليه يتضح أن أكثر التحديات فيما تبقى من دولة السودان هو كيفية إقناع الكائنات الماضوية بضرورة التخلي عن ثوابتها التي أوردت البلاد موارد الهلاك، وإفهامها أن الثابت الوحيد في المجتمع والطبيعة هو التغير .. هو الحركة .. هو التطور.. و لا شئ ساكن.وأوضح ان السؤال الذي تسعى الحركة الشعبية للإجابة عليه وهو كيف يحكم السودان؟.. أي بمعنى آخر كيفية إدارة التعدد والتنوع العرقي/لثقافي والديني والجهوي والنوعي في السودان؟ فإنه في نظر الحركة الشعبية أن أس المشكلة هو إصرار وتمسك النخب التى تعاقبت على سدة الحكم في البلاد.. إصراراها على عدم الإعتراف بالتنوع والتعدد الذي يزخر به السودان، والعمل على التمسك بالآحادية الثقافية وإختزال هوية الدولة في الهوية العربية الإسلامية ثم تعميمها على بقية القوميات السودانية وفرضها بالقوة .. وعندما قاومت بقية الجماعات سياسات الآحادية الثقافية لجأت الأقلية الحاكمة الى إستخدام العنف والذي قاد الى الحروب الأهلية وأدى الى تقسيم البلاد في عام ٢٠١١، ورغم ذلك فإن النخب لم ترعوى او تعي الدرس، وواصلت في إستخدام العنف والذي بات يهدد ماتبقى من السودان بالتشرذم والتفكك. وفي ظل هذه المهددات فأن الحركة الشعبية طرحت برنامج السودان الجديد وهو مشروع سياسي فكري يهدف الى إعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديده من الحرية والمساواة والعدالة والوحدة الطوعية وذلك يتطلب حياد جهاز الدولة وعدم إنحيازه لأي مكون عرقي/ثقافي ديني من مكوناتها وإعتماد المواطنة كأساس اوحد للحقوق والواجبات .

قضايا الهامش والكتلة التاريخية؟

ويصف الحلو في التهميش هو عملية استبعاد الأفراد والجماعات من حيازة السلطة والثروة، وذلك بخلق الموانع الهيكلية التي  تضيق عليهم الفرص. الأمر الذي يجعل هذه الموانع نفسها مصدر إمتيازات للفئات الآخرى المهيمنة، وهذه الموانع عديده منها ما هو إقتصادي، وما هو عرقي/ثقافي اوديني أو جهوي أو نوعي .. وهذا ما يجعل التهميش مركباً وليس بسيطاً.والتهميش البسيط هو تهميش إقتصادي أو تهميش تنموي ويشمل الفقراء  عموما بغض النظر عن أعراقهم وثقافاتهم وعقائدهم  او الجهة او النوع..وبذلك فإننا نعتقد أن أكثر من ٩٠٪ من السودانيين مهمشين إقتصاديا ومتضررين من الوضعية القائمة .. ولذلك فإن التهميش الإقتصادي يمثل أرضية صلبة لوحدتهم (ريف ومدن) من أجل بناء الكتلة التاريخية بتضامن قوى الهامش الجغرافي وقوى الإستنارة في المدن تحت راية واحدة للنضال المشترك من أجل تغيير الأوضاع بالبلاد الى الأفضل عبر تفكيك دولة السودان القديم، التي أفرزت هذه الاوضاع المختلة. ومن ثم العمل على إعادة بناء الدولة السودانية على أسس العدالة والمساواة والحرية  وتقويم إنحراف السلطة من خلال إعادة الوظيفة الإيجابية لها مستقبلاً لتقوم بالتدخل لمصحلة الحرية والعدالة بدلا من الإخلال بموازين العدل.(يتبع)

Pin It

السودان.. الطريق للانتقال من الاستبداد الي الديمقراطية (7)

الخرطوم:حسين سعد
تتميز هذه الانتفاضة عن سابقاتها بكونها حراك نوعي، قوامه المراة، والشباب والطلاب والعمال، والمثقفون الذين يتمتعون بوعيٍ نقدي كامل لتجربة الحكم في السودان لفترة ما بعد الاستقلال، بشقيها العسكري والديمقراطي معًا، كما يتميَّز هذا الحراك بانتشاره في جميع مناطق السودان، وبمشاركة نسوية،وشبابية لافتة، سيكون لها أثرها في تحديد ملامح المرحلة المقبلة فوق ذلك، فقد تواصلت هذه الانتفاضة مدة أطول بكثير من ثورة أكتوبر 1964التي أطاحت الفريق إبراهيم عبود، وثورة أبريل 1985 التي أطاحت الرئيس جعفر النميري،والنقطة المهمة وهي التفاف القوي السياسية بكافة مكوناتها نداء السودان وقوي الاجماع الوطني بجانب الاحزاب السياسية الغير منضوية لهذه التحالفات السياسية كل هذه القوي السياسية توحدت خلف اعلان الحرية والتغيير، المقارنة الاخري هي ان الثورة الحالية واجهة قوة أمنية، وقمع أكثر من ثورتي أبريل، وأكتوبر،كما لعبت مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت غائبة في ثورتي أكتوبر وأبريل، دورا مفتاحيا في الثورة ،نخلص الي ان الصمود النبيل للثوار أكد علي ان  القبضة الأمنية لا تستطيع أن تقتل إرادة شعب يسعى للحرية،فالقضاء على (الانتفاضة) ليس بإسكات الاحتجاجات الشعبية، ومطالبها المحقة في  الحرية ،وخروجها للشوارع والميادين العامة،وتسييرها للمواكب الهادرة، ولا بحل المشاكل الاقتصادية فقط، وإنما بضرورة بناء دولة ديمقراطية تمثل الإرادة الشعبية المعاصرة،والاستجابة لمطالب الجماهير في الحرية والتغيير، فالملاحم الثورية التي يخوضها الشعب السوداني اليوم عبر انتفاضته الباسلة ، تؤكد بأن هذا الشعب العظيم، وبالرغم من كل الممارسات القمعية، يثبت صموداً بلغ حدّ الإعجاز (وحياه الشعب السودانى..الثوره طريقى وايامى ) تتكامل هذه الصورة وتتلاحم مع صورالصمود، والبطولة التي تبذلها الجماهيرفي انتفاضتها المسلحة بالصبر، والمعنويات العالية ،والتي تتخذ من السلمية خيارا واحدا (سلمية سلمية) هذه الهتافات تمثل صدى رسالة غاندي، ومانديلا، ومحمود محمد طه،وأيقونات زمن الثورات والاحتجاجات السلمية، صدى قوة الحق، واللاعنف، والمقاومة السلمية من أجل تحقيق الحرية، ولفت انتباه كافة الشعوب المحبة للسلام في العالم، ومايميز هذه الانتفاضة إنها ثورة الجماهير بحق، قادها شباب مؤمن بنفسه ووطنه ومستقبله، حيث نزل إلى الشارع في سبيل أن يكون المستقبل مشرقا،فهذه الثورة التي ولدت من رحم الشعب، صنعت نفسها بنفسها، لذلك ستظل مستمرة حتى تحقق أهدافها بانتقال سلمي للسلطة، عليه يبقى كل الرهان على الشعب، وثورته الصامدة، والتي تحدت كل ما تسلح به النظام من أجهزة قمع، فحطمت جدران الصمت، والخوف، وهزمت أجهزة القهر في الميادين والشوارع، فقد برهنت هذه الانتفاضة أنها لن تتوقف، بل ستستكمل مشوارها إلى أن تتحقق الأهداف التي انطلقت من أجلها،وسيذكر التاريخ أن شاعر الشعب محجوب شريف الذي كان حاضرا بثقله الكبير، في انتفاضة شعب أراد الحياة صافية مبرأة من نكد الطغاة، مضمخة بعطور المحبة والوئام، مسيجة بسياج العدالة والسلام، مشحونة بقيم الحق والخير والجمال،(مليون سلام يا شعبنا أحرار وحريتنا في إيمانّا بيك ..ثوار بنفتح للشمس في ليلنا باب ..لي يوم جديد ..وبنفتديك ..وعيونا تتوجه اليك ..إنت المعلم والكتاب) 

وحدة المعارضة:

لم يسجل نظام البشير منذ، وصوله إلى الحكم إنجازات فعلية خلاف تمسكه بالسلطة، إذ فشل في الحفاظ على وحدة البلاد، وادارة تنوعها الثقافي، والديني ، كما فشل النظام في إدارة الامكانيات والموارد في البلاد ،وعلي رأسها المورد الزراعي ، والفشل في توفير السلع، والخدمات ،وكبح جماح الغلا ء وتفلت السوق وجنونه، وتراجعت قيمة الجنيه السوداني، مقابل الدولار الأميركي الواحد، عندما استلم النظام الحكم عام 1989، إلى أرقام فلكية بلغت نحو 70 جنيه، ويرجح خبراء اقتصاديين تجاوزه للمئة جنيها خلال الفترة القادمة ، كما فشل النظام في جلب استثمارات مفيدة لاقتصاد البلاد حتى بعد رفع العقوبات، فضلا عن تهريب الذهب الذي يمتلك السودان بعض أكبر مناجم التنقيب عنه، أما من ناحية المعارضة السودانية فنري إنها قادرة على اكتمال وحدتها، وقادرة ايضا علي صناعة التغيير، وتقف معها، وتسندها قطاعات عريضة من الجماهير السودانية، والكيانات الاجتماعية ،وفئات الشباب، والطلاب والمرأة والمحرومين الراغبين في التغيير فالاستبداد، والظلم وحد السودانيين الذين جمعتهم السجون، والمعتقلات، لكن هذه الوحدة  بحاجة إلي من يلتقطها، وينسج خيوطها،وحتي لا نضيع وقتا ثمينا،ونحن وبلادنا في وضع متحرك، يمكن للمعارضة السودانية أن تنطلق من تجاربها السابقة للخروج برؤية تعيد للسودانيين دولتهم المخطوفة والمنهوبة، وتعمل علي اعادة بناء الوجدان المشترك لشعبنا، والمطالب المشتركة، والعمل على تحقيق أوسع التفاف جماهيري ممكن حولها حتى تتحول الى مرجعية شاملة يتطلب تنفيذها حدود دنيا من التنسيق، و الاعداد المشترك ،وحدود عليا من المسوؤلية الوطنية، فالنظام استنفذ أغراضه، والأوضاع الحالية، والقمع طوال ثلاثة عقود يحفز الشعب للمضي في ثورته حتي نهاياتها السعيدة ،لذلك علي المعارضة ،مراجعة حساباتها ،ورسم أهدافها بحسب ما يتوفر لديها من إمكانيات متواضعة، وعدم إضاعت الوقت في البحث عن مواثيق جديدة، وعلي المعارضة البناء علي ما تم، لأن بلادنا وأزماتها في سباق مع الزمن الذي تتسارع فيه، وتيرة التغيير حيث باتت الحياة قاسية، وتصاعدت حدة الأزمة الاقتصادية والسياسية ،وتفشت وبشكل مزعج في السودان ثقافة العصبية ،والقبلية علي حساب ثقافة الوطن والمواطنة، وسادت ثقافة الغنيمة علي حساب ثقافة بناء الدولة والمؤسسات او كما يقول المثل الشعبي (دار ابوك كان خربت شيل ليك منها عود)،فالسودان من الدول الأكثر فقرا، وهشاشة لذلك هو مرشح لمخاطر اهتزاز أوضاعه، وتفاقمها في ظل الأزمات الحادة، وما يزيد من ذلك وجود مؤشرات تتمثل في تزايد معدلات الجريمة بهدف المال، والسرقة فضلا عن تنامي المواجهات القبلية الدامية هذه مؤشرات تدل على درجة عالية من الخطورة تهدد السلم الاجتماعي في البلاد التي تعاني أصلا من تراكمات ،تعمقت مع الزمن، ولم تستطع الأنظمة الوطنية تخليصه منها، بل أن بعضها زادتها تعميقا وتكريسا ،والشاهد هنا النظام الحالي، لفشله المستمر في النهوض الاقتصادي والاجتماعي، ومايعزز رؤيتنا هنا ماقاله القيادي الإسلامي البارز أحمد عبد الرحمن محمد في حوار له مع الزميل الصحفي صديق دلاي : القصة باظت وأوصي الإسلاميين (يسردبو بس) وأوضح :اشتغلنا بتفكيك الجبهة الداخلية بدون فائدة من ذلك وفرتقنا الأحزاب بقصر نظر عجيب وعجزنا عن تحقيق وحدة وطنية معقولة مع بقية السودانيين، وتعاملنا بطريقة غير مسؤولة مع ثوابت سودانية، طريقة بها عدم أمانة وفهم لطبيعة المكون السوداني فتعاملنا مع قطاعات ضخمة بولائها القبلي والجهوي وكان تعامل غير مسؤول للقضايا الوطنية،وأضاف: تعاملنا بالولاء القبلي والجهوي وهو عدم مسؤولية للقضايا الوطنية،ووصف عبد الرحمن التظاهر رسالة صادقة من الشارع والشباب. وفي سياق ذي صلة نقراء اعتراف مولانا أحمد هارون الرئيس المفوض للمؤتمر الوطني بقوله: ان مستقبل السودان لايشكله المؤتمر الوطني وحده ولا الاحزاب الاخرى بل يشكله الجميع بشكل تشاركي،وأضاف هارون في الحوار الذي أجرته معه الهيئة القومية للاذاعة والتلفزيون أن المشهد السياسي الوطني كله يحتاج إلى تغيير ليس في الشكل الظاهري بل في محتواه نحن في الحزب أمام تحول كبير نريد أن نشكله مع شركائنا في القوى السياسية أيا كان موقفهم وحتى يستقر السودان يجب أن نؤسس لادارة قواعد الاختلاف بدستورية جديدة يعبر عنها بدستور دائم للسودان،وفي مقال له بعنوان تعليقات في السياسة الداخلية نشرته الميدان أشار الاستاذ سليمان حامد الي ما نشرته الانتباهة في 27-مارس 2019م  عن قطبي المهدي القيادي في المؤتمر الوطني والحركة الاسلامية(المؤتمر الوطني لم يعد مواكبا للمرحلة بل ويتحمل الاخفاقات الماضية، وبالتالي كان حاجة هناك لانشاء حزب جديد واحمد هارون مكلف بذلك) واقعيا ينقسم المجتمع السوداني إلى أثنين أقلية من الأثرياء، تعيش في أجواء من الترف والفساد، إلى جانب أكثرية ساحقة من الفقراء، والمعدمين، الذين يعانون قساوة الحياة في ظل تخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية والاهتمام بالشرائح الضعيفة، وكبار السن ، وما يزيد في تعمق هذا المشهد الاجتماعي المأزوم، غياب شبه كلي للطبقة الوسطى، التي تشكل صمام الأمان للمجتمع ورافعة لنهوض الدولة اقتصاديا واجتماعيا، كلها عوامل تجعل الأوضاع الاجتماعية قابلة للانفجار في أي وقت، لأنه من المرجح أن تزيد الأزمة الحالية هذه الأوضاع قتامة، وتفاقما خاصة إذا عرفنا أن البطالة سجلت أرقاما فلكية حيث تجاوزت 20 % ونسبة الفقر تجاوز 46 % ، (هذه الأرقام مشكوك في صحتها ) ،اقتصاديا ما زالت العملة الوطنية تواصل ترنحها أمام الأجنبية وفشل كل محاولات الإصلاح الاقتصادي كما ان الغلاء يطحن الناس وانهيار تام للقدرة الشرائية،التحدي الأخر هو انتشار الفساد المالي والإداري، والنهب الممنهج لثروات السودان،محاربة الفساد (القطط السمان) صارت واحدة من أدوات حسم الصراع داخل النظام،ما دفعنا الي تشريح هذا الواقع المؤلم هو استشرافنا للمستقبل، والاستفادة من دروس الماضي حتي لا تجد المعارضة نفسها في مناخ ملتهب، وأمام وضع جديد أدواته مختلفة، وإيقاعه أسرع من ما اعتادت عليه، فثورة ديسمبر دفعت الجميع إلى الأمام، ورفعتهم إلى أعلى،فهي بحاجة الي غطاء سياسي، أوسع ورافع خارجي لمخاطبة المجتمع الدولي والاقليمي.

وجدان مشترك:

بعد ثلاثة عقود من انقلاب الانقاذ، تسببت التغيرات في موازين النخب الاجتماعية لحساب الحركة الاسلامية التي استحوذت على مفاصل الاقتصاد والسياسة، وأصبحت تتمتع بغناء فاحش، في مقابل اتساع دائرة الفقر بين شعب السودان،وتسبب ذلك في كثير من الإحباط والصراع المكبوت، كما لم تقتصر الاحتجاجات على الفقراء فقط، أو منطقة جغرافية محددة، بل شملت مختلف المناطق والعرقيات،حتي الاغنياء ،فالمشروع الحضاري الذي فشل تماما، وكانت نتائجه كارثية علي الشعب السوداني حيث قيدت الحكومة الحريات، وتدخلت في الشان الشخصي ،ووصل الحد إلى التحكم في أشكال الملابس والسلوكيات كل ذلك خلق حالة امتعاض تنتظر فرصة التعبير،والاحتجاج،كما عمل النظام علي غرس بذور الفتنة القبلية، وتفشي العنصرية لكن الثورة ضمدت جراح الوطن المكلوم وعندما دمغت الحكومة طلاب دارفور كذبا هتف الشعب السوداني من شماله الي جنوبه وشرقه الي غربه ووسطه (كل الوطن دارفور)ومن أبرز علامات هذا الحراك أيضًا حرصه على الطابع السلمي ورفض أي شكل من أشكال العنف، فخلال نحو أربعة أشهر لم تُسجَّل حادثة تخريب، ويتميز هذا الحراك أيضًا بوقوف بعض الطرق الصوفية التي تنتشر في السودان على نطاق واسع إلى جانبه، ونري لهذا التحول دلالاته،ومنذ انتفاضة سبتمبر 2013، تمكّن الشباب والطلاب المنتفضون، عبر ممارسة العمل الطوعي، والتشبيك الرقمي لمجموعاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، من تحقيق درجة عالية من التنظيم والتنسيق،وقد وجد هذا الحراك الرقمي فرصته ليتحول إلى فعلٍ لافت في الشارع مع اشتداد الظروف المعيشية، وسارعت الحكومة، منذ بداية الانتفاضة، إلى إغلاق منصتي فيسبوك وواتساب، إلا أن شيوع امتلاك الهواتف الذكية، والمعرفة بخاصية الشبكة الافتراضية الخاصة VPN، مكَّنا الشباب والكبار، معًا، من الالتفاف على الحظر الحكومي. ومن مؤشرات نجاح هذا التواصل الشبكي الواسع.
  ثورة شعب

يقول الخبراء انه ليس هناك ثورة بدون وعي ثوري، وليس هناك ثورة بدون إرادة ثوريَّة، وان الإرادة لن تنهض بدون روح الوطنية النابض في جسم الثَّائر،فالثَّورة وعْي متكامل عند الشُّعوب المقهورة، وهي علاج ناجع للشعوب المغلوبة على أمرها، لتنزع الذل والمهانة، والفقر والجهل والمرض،فالثورة يمكن وصفها بثوب مطرز بخيوط الإنصاف لتحقيق العدل والمساواة بين أبناء شعب واحد،وهي قلم ذهبي يسطر تاريخ المقهورين بكرم وشرف، فثورة السودان اليوم صارت ثقافة شعبية اجتماعية تجدها عند الاطفال وبراءتهم ولعباتهم، وقصصهم ،تجدها لدي الثوار في قصص صمودهم، وجسارتهم ،تجدها في زغاريد النساء التي تلهب الثوار ،تجدها في المستطيل الاخضر، وعند احتفال لاعبي كرة القدم بتسجيل هدف  ذكي ،الثورة حاضرة في مسارحنا ،وفي غنانا المشتهونو،ومساعد علي تحول هذه الهبّة الجماهيرية بهذه الوتيرة السلمية المتصاعدة، هو إمتلاكها لروح الإصرار، والتحدي، وبتقديمها كل هذه التضحيات إلى انتفاضة شعبية هادرة ،حيث إتسعت قاعدتها الجماهيرية ،والتفت حولها الجماهير،وبخلفية بسيطة نجد ان الإحتجاجية الشعبية جاءت بعد سنين طويلة من الإفقار الاقتصادي، والقمع ، فالبركان الذي انفجر قد سبقته شروط ،ومسببات امتدت لأعوام عديدة، وما كان يعتمل في داخل هذا البركان الخامد إنفجر في لحظة الذروة، لقد زاد من حدّة غليان الشارع الاستفزاز للشعب، والأزمة الإقتصادية الأخيرة، ونهج السياسة الإقتصادية القائم على آليات السوق، وتوصيات المؤسسات الرأسمالية الدولية، ووصفاتها في التقشّف، والخصخصة، وتخفيض الدور الإجتماعي للدولة مع ارتفاع مستويات الفساد المالي، والنهب الممنهج، وفشل كل الوعود التي اطلقها النظام لمحاربة القطط السمان، والتي تعتبر صراع أجنحة، فملايين العاطلين عن العمل من الشباب الخريجيين ومئات الآلاف من المزارعين، والعمال وفئات واسعة من الطبقة الوسطى التي اندثرت قد وجدوا انفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الرضوخ للأمر الواقع والاستمرار بشروط الحد الأدنى من العيش، وبشروط الحد الأقصى من قمع الحريات المدينة والسياسية وإمّا الانتفاضة ومحاولة تغيير الواقع،وبالفعل انتصر هذه المرة هو الخيار الثاني، ولو كانت تكاليفه مرتفعة، ولكن لم يكن امام الشعوب حل آخر مفضل ، وفي المقابل لم يخرج النظام عن أساليبه التقليدية في القمع، والبطش لكل معارض، كما ما زال مستمرًا بسياسة تمرير الوقت ريثما يتوصل للقضاء نهائيًا على كل صوت معارض بكافة الاساليب الممكنة، كما أن النظام ما زال يلوّح بسياسة التهديد بالأوراق التي يملكها امام الدول الكبرى،(الارهاب والهجرة غير الشرعية) ولكن لا يوجد حتى اليوم مؤشر على إنه سيخاطر بلعب هذه الأوراق ،صحيح ان بعض الدوائر الدولية ما تزال تجد في النظام ضمانة للاستقرار في المنطقة،وإن أقصى ما تريده هذه الدوائر هي بعض المكاسب السياسية المتعلقة بترتيب أوراقها في المنطقة، ولا يخفي على أحد أن هذه الدوائر لا تضع في حساباتها مصالح الشعب السوداني وطموحاته المشروعة في الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية،لكن هناك دول مشغولة بالازمة السورية، والصراع الاقليمي بالمنطقة التي تعيش سيولة غير مسبوقة، وبحسب بيان لحزب الامة القومي فأن ميزانيةهذا العام 2019م تُنذر البلاد بكارثة كبـرى، بما فيها من عجز، وزيادة في الانفاق، وضعف تمويل الانتاج، وإهمـال خدمات ومعاش الناس، يؤكد ذلك ارتفاع الانفاق الي 53% عن العام الماضي، والعجز ارتفع الي 90% واصبح يمثل 25% من العجز الكلـي ومصادر تمويل هذا العجز هي طباعة بلا تغطية، مما يرفع التضخم والاسعار والقروض، كما أن نسبة التضخم المستهدفة 27% وهذه نسبة غير واقعية فالنسبة السائدة 90%، وعَجز الميزان التجاري المستهدف 2,5 مليار دولار، والعجز الفعلي في ظل الصـادر والوارد لا يقل عن 6 مليار دولار في العام هذا العجز مرشح للزيادة في ظل الفجوة بيـن سعر الدولار في السوق الموازي وسعر آلية السوق، إضافةً الـي أن شُـح  النقد نَسـف ما تبقـي من ثقة في النظام المصرفـي وانكسار الدورة النقدية، هـذه المؤشرات تؤكد بأن هذا النظام مستهدف لشعبنا في معاشه واستقراره، فكلفة بقاءه باهظة، ورحيله أول خطوات التعافـي الاقتصـادي.

ميزات الثورة:

كشف الاحتجاجات منذ بدايتها عن مجموعة من الخصائص، منها سلمية المواكب ،والالتزام بالمواعيد والدقة  في التنظيم،كما يتميز الحراك  بمستوى عالي من الوعي، والتحضر، وتدل علي ذلك مؤشرات عديدة مثل تقديم المياه ،والعصائر للثوار والمساهمة في اصلاح تهشيم زجاج عربة احدي المواطن تهشم بالخطاء، ولم تسجل المواكب التي دخلت شهرها الرابع اي حادثة،وتنظيف الشوارع ،كما لم ينسي الثوار رد التحية بأحسن منها ،وذلك من خلال تسير موكب الي منزل المناضل المهندس صديق يوسف عميد المعتقلييين، وتكريمه بمسجد الملازميين ،فالميزة المهمة ايضا تتمثل في الحشد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ولعبت صفحات الفيسبوك دورًا أساسيًا في نشر الفكرة والوعي بين المواطنين، وحشد الجماهير، وحثها على أخذ الاحتياطات اللازمة كعدم الاصطدام مع الأجهزة الأمنية، وعدم الاستماع إلى الشعارات المنادية بالعنف والشغب، ويشارك في المواكب كل الفئات العمرية، والطبقات الاجتماعية، وفئات من المستويات التعليمية والثقافية كافة، رجالاً ونساءً، وشباب ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي (خاصة فيسبوك) في حشدها،فضلا عن تجنب استخدام أساليب الشغب والعنف اللفظي أوالمادي،وتوحيد الشعارات والمطالب التي رفعها المواطنون، ونادوا من خلالها بالتغيير الجذري للحكومة، والإصلاحات الشاملة لكل المجالات سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا،وعكست المواكب  صورة إيجابية عن الوحدة الوطنية، بحيث لم تظهر شعارات عنصرية، فقد تمكنت الثورة من توحيد الصفوف، وتجاوز معيار الجهوية والعرقية والإثنية بل العكس عندما اتهمت السلطات ابناء دارفور ببعض الاحداث هتف الثوار(كل الوطن دارفور) كما فشلت كافة الخطوات التأمرية التي سعت لدمغ الثورة بأنها تحركها أطراف خارجية،المدهش في الثورة هو مشاركة المراة بشكل كبير وفي كل المواكب والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية.(يتبع)تنحي بالتقسيط المريح

Pin It

السودان.. الطريق للانتقال من الاستبداد الي الديمقراطية (7)

الخرطوم:حسين سعد
تتميز هذه الانتفاضة عن سابقاتها بكونها حراك نوعي، قوامه المراة، والشباب والطلاب والعمال، والمثقفون الذين يتمتعون بوعيٍ نقدي كامل لتجربة الحكم في السودان لفترة ما بعد الاستقلال، بشقيها العسكري والديمقراطي معًا، كما يتميَّز هذا الحراك بانتشاره في جميع مناطق السودان، وبمشاركة نسوية،وشبابية لافتة، سيكون لها أثرها في تحديد ملامح المرحلة المقبلة فوق ذلك، فقد تواصلت هذه الانتفاضة مدة أطول بكثير من ثورة أكتوبر 1964التي أطاحت الفريق إبراهيم عبود، وثورة أبريل 1985 التي أطاحت الرئيس جعفر النميري،والنقطة المهمة وهي التفاف القوي السياسية بكافة مكوناتها نداء السودان وقوي الاجماع الوطني بجانب الاحزاب السياسية الغير منضوية لهذه التحالفات السياسية كل هذه القوي السياسية توحدت خلف اعلان الحرية والتغيير، المقارنة الاخري هي ان الثورة الحالية واجهة قوة أمنية، وقمع أكثر من ثورتي أبريل، وأكتوبر،كما لعبت مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت غائبة في ثورتي أكتوبر وأبريل، دورا مفتاحيا في الثورة ،نخلص الي ان الصمود النبيل للثوار أكد علي ان  القبضة الأمنية لا تستطيع أن تقتل إرادة شعب يسعى للحرية،فالقضاء على (الانتفاضة) ليس بإسكات الاحتجاجات الشعبية، ومطالبها المحقة في  الحرية ،وخروجها للشوارع والميادين العامة،وتسييرها للمواكب الهادرة، ولا بحل المشاكل الاقتصادية فقط، وإنما بضرورة بناء دولة ديمقراطية تمثل الإرادة الشعبية المعاصرة،والاستجابة لمطالب الجماهير في الحرية والتغيير، فالملاحم الثورية التي يخوضها الشعب السوداني اليوم عبر انتفاضته الباسلة ، تؤكد بأن هذا الشعب العظيم، وبالرغم من كل الممارسات القمعية، يثبت صموداً بلغ حدّ الإعجاز (وحياه الشعب السودانى..الثوره طريقى وايامى ) تتكامل هذه الصورة وتتلاحم مع صورالصمود، والبطولة التي تبذلها الجماهيرفي انتفاضتها المسلحة بالصبر، والمعنويات العالية ،والتي تتخذ من السلمية خيارا واحدا (سلمية سلمية) هذه الهتافات تمثل صدى رسالة غاندي، ومانديلا، ومحمود محمد طه،وأيقونات زمن الثورات والاحتجاجات السلمية، صدى قوة الحق، واللاعنف، والمقاومة السلمية من أجل تحقيق الحرية، ولفت انتباه كافة الشعوب المحبة للسلام في العالم، ومايميز هذه الانتفاضة إنها ثورة الجماهير بحق، قادها شباب مؤمن بنفسه ووطنه ومستقبله، حيث نزل إلى الشارع في سبيل أن يكون المستقبل مشرقا،فهذه الثورة التي ولدت من رحم الشعب، صنعت نفسها بنفسها، لذلك ستظل مستمرة حتى تحقق أهدافها بانتقال سلمي للسلطة، عليه يبقى كل الرهان على الشعب، وثورته الصامدة، والتي تحدت كل ما تسلح به النظام من أجهزة قمع، فحطمت جدران الصمت، والخوف، وهزمت أجهزة القهر في الميادين والشوارع، فقد برهنت هذه الانتفاضة أنها لن تتوقف، بل ستستكمل مشوارها إلى أن تتحقق الأهداف التي انطلقت من أجلها،وسيذكر التاريخ أن شاعر الشعب محجوب شريف الذي كان حاضرا بثقله الكبير، في انتفاضة شعب أراد الحياة صافية مبرأة من نكد الطغاة، مضمخة بعطور المحبة والوئام، مسيجة بسياج العدالة والسلام، مشحونة بقيم الحق والخير والجمال،(مليون سلام يا شعبنا أحرار وحريتنا في إيمانّا بيك ..ثوار بنفتح للشمس في ليلنا باب ..لي يوم جديد ..وبنفتديك ..وعيونا تتوجه اليك ..إنت المعلم والكتاب) 

وحدة المعارضة:

لم يسجل نظام البشير منذ، وصوله إلى الحكم إنجازات فعلية خلاف تمسكه بالسلطة، إذ فشل في الحفاظ على وحدة البلاد، وادارة تنوعها الثقافي، والديني ، كما فشل النظام في إدارة الامكانيات والموارد في البلاد ،وعلي رأسها المورد الزراعي ، والفشل في توفير السلع، والخدمات ،وكبح جماح الغلا ء وتفلت السوق وجنونه، وتراجعت قيمة الجنيه السوداني، مقابل الدولار الأميركي الواحد، عندما استلم النظام الحكم عام 1989، إلى أرقام فلكية بلغت نحو 70 جنيه، ويرجح خبراء اقتصاديين تجاوزه للمئة جنيها خلال الفترة القادمة ، كما فشل النظام في جلب استثمارات مفيدة لاقتصاد البلاد حتى بعد رفع العقوبات، فضلا عن تهريب الذهب الذي يمتلك السودان بعض أكبر مناجم التنقيب عنه، أما من ناحية المعارضة السودانية فنري إنها قادرة على اكتمال وحدتها، وقادرة ايضا علي صناعة التغيير، وتقف معها، وتسندها قطاعات عريضة من الجماهير السودانية، والكيانات الاجتماعية ،وفئات الشباب، والطلاب والمرأة والمحرومين الراغبين في التغيير فالاستبداد، والظلم وحد السودانيين الذين جمعتهم السجون، والمعتقلات، لكن هذه الوحدة  بحاجة إلي من يلتقطها، وينسج خيوطها،وحتي لا نضيع وقتا ثمينا،ونحن وبلادنا في وضع متحرك، يمكن للمعارضة السودانية أن تنطلق من تجاربها السابقة للخروج برؤية تعيد للسودانيين دولتهم المخطوفة والمنهوبة، وتعمل علي اعادة بناء الوجدان المشترك لشعبنا، والمطالب المشتركة، والعمل على تحقيق أوسع التفاف جماهيري ممكن حولها حتى تتحول الى مرجعية شاملة يتطلب تنفيذها حدود دنيا من التنسيق، و الاعداد المشترك ،وحدود عليا من المسوؤلية الوطنية، فالنظام استنفذ أغراضه، والأوضاع الحالية، والقمع طوال ثلاثة عقود يحفز الشعب للمضي في ثورته حتي نهاياتها السعيدة ،لذلك علي المعارضة ،مراجعة حساباتها ،ورسم أهدافها بحسب ما يتوفر لديها من إمكانيات متواضعة، وعدم إضاعت الوقت في البحث عن مواثيق جديدة، وعلي المعارضة البناء علي ما تم، لأن بلادنا وأزماتها في سباق مع الزمن الذي تتسارع فيه، وتيرة التغيير حيث باتت الحياة قاسية، وتصاعدت حدة الأزمة الاقتصادية والسياسية ،وتفشت وبشكل مزعج في السودان ثقافة العصبية ،والقبلية علي حساب ثقافة الوطن والمواطنة، وسادت ثقافة الغنيمة علي حساب ثقافة بناء الدولة والمؤسسات او كما يقول المثل الشعبي (دار ابوك كان خربت شيل ليك منها عود)،فالسودان من الدول الأكثر فقرا، وهشاشة لذلك هو مرشح لمخاطر اهتزاز أوضاعه، وتفاقمها في ظل الأزمات الحادة، وما يزيد من ذلك وجود مؤشرات تتمثل في تزايد معدلات الجريمة بهدف المال، والسرقة فضلا عن تنامي المواجهات القبلية الدامية هذه مؤشرات تدل على درجة عالية من الخطورة تهدد السلم الاجتماعي في البلاد التي تعاني أصلا من تراكمات ،تعمقت مع الزمن، ولم تستطع الأنظمة الوطنية تخليصه منها، بل أن بعضها زادتها تعميقا وتكريسا ،والشاهد هنا النظام الحالي، لفشله المستمر في النهوض الاقتصادي والاجتماعي، ومايعزز رؤيتنا هنا ماقاله القيادي الإسلامي البارز أحمد عبد الرحمن محمد في حوار له مع الزميل الصحفي صديق دلاي : القصة باظت وأوصي الإسلاميين (يسردبو بس) وأوضح :اشتغلنا بتفكيك الجبهة الداخلية بدون فائدة من ذلك وفرتقنا الأحزاب بقصر نظر عجيب وعجزنا عن تحقيق وحدة وطنية معقولة مع بقية السودانيين، وتعاملنا بطريقة غير مسؤولة مع ثوابت سودانية، طريقة بها عدم أمانة وفهم لطبيعة المكون السوداني فتعاملنا مع قطاعات ضخمة بولائها القبلي والجهوي وكان تعامل غير مسؤول للقضايا الوطنية،وأضاف: تعاملنا بالولاء القبلي والجهوي وهو عدم مسؤولية للقضايا الوطنية،ووصف عبد الرحمن التظاهر رسالة صادقة من الشارع والشباب. وفي سياق ذي صلة نقراء اعتراف مولانا أحمد هارون الرئيس المفوض للمؤتمر الوطني بقوله: ان مستقبل السودان لايشكله المؤتمر الوطني وحده ولا الاحزاب الاخرى بل يشكله الجميع بشكل تشاركي،وأضاف هارون في الحوار الذي أجرته معه الهيئة القومية للاذاعة والتلفزيون أن المشهد السياسي الوطني كله يحتاج إلى تغيير ليس في الشكل الظاهري بل في محتواه نحن في الحزب أمام تحول كبير نريد أن نشكله مع شركائنا في القوى السياسية أيا كان موقفهم وحتى يستقر السودان يجب أن نؤسس لادارة قواعد الاختلاف بدستورية جديدة يعبر عنها بدستور دائم للسودان،وفي مقال له بعنوان تعليقات في السياسة الداخلية نشرته الميدان أشار الاستاذ سليمان حامد الي ما نشرته الانتباهة في 27-مارس 2019م  عن قطبي المهدي القيادي في المؤتمر الوطني والحركة الاسلامية(المؤتمر الوطني لم يعد مواكبا للمرحلة بل ويتحمل الاخفاقات الماضية، وبالتالي كان حاجة هناك لانشاء حزب جديد واحمد هارون مكلف بذلك) واقعيا ينقسم المجتمع السوداني إلى أثنين أقلية من الأثرياء، تعيش في أجواء من الترف والفساد، إلى جانب أكثرية ساحقة من الفقراء، والمعدمين، الذين يعانون قساوة الحياة في ظل تخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية والاهتمام بالشرائح الضعيفة، وكبار السن ، وما يزيد في تعمق هذا المشهد الاجتماعي المأزوم، غياب شبه كلي للطبقة الوسطى، التي تشكل صمام الأمان للمجتمع ورافعة لنهوض الدولة اقتصاديا واجتماعيا، كلها عوامل تجعل الأوضاع الاجتماعية قابلة للانفجار في أي وقت، لأنه من المرجح أن تزيد الأزمة الحالية هذه الأوضاع قتامة، وتفاقما خاصة إذا عرفنا أن البطالة سجلت أرقاما فلكية حيث تجاوزت 20 % ونسبة الفقر تجاوز 46 % ، (هذه الأرقام مشكوك في صحتها ) ،اقتصاديا ما زالت العملة الوطنية تواصل ترنحها أمام الأجنبية وفشل كل محاولات الإصلاح الاقتصادي كما ان الغلاء يطحن الناس وانهيار تام للقدرة الشرائية،التحدي الأخر هو انتشار الفساد المالي والإداري، والنهب الممنهج لثروات السودان،محاربة الفساد (القطط السمان) صارت واحدة من أدوات حسم الصراع داخل النظام،ما دفعنا الي تشريح هذا الواقع المؤلم هو استشرافنا للمستقبل، والاستفادة من دروس الماضي حتي لا تجد المعارضة نفسها في مناخ ملتهب، وأمام وضع جديد أدواته مختلفة، وإيقاعه أسرع من ما اعتادت عليه، فثورة ديسمبر دفعت الجميع إلى الأمام، ورفعتهم إلى أعلى،فهي بحاجة الي غطاء سياسي، أوسع ورافع خارجي لمخاطبة المجتمع الدولي والاقليمي.

وجدان مشترك:

بعد ثلاثة عقود من انقلاب الانقاذ، تسببت التغيرات في موازين النخب الاجتماعية لحساب الحركة الاسلامية التي استحوذت على مفاصل الاقتصاد والسياسة، وأصبحت تتمتع بغناء فاحش، في مقابل اتساع دائرة الفقر بين شعب السودان،وتسبب ذلك في كثير من الإحباط والصراع المكبوت، كما لم تقتصر الاحتجاجات على الفقراء فقط، أو منطقة جغرافية محددة، بل شملت مختلف المناطق والعرقيات،حتي الاغنياء ،فالمشروع الحضاري الذي فشل تماما، وكانت نتائجه كارثية علي الشعب السوداني حيث قيدت الحكومة الحريات، وتدخلت في الشان الشخصي ،ووصل الحد إلى التحكم في أشكال الملابس والسلوكيات كل ذلك خلق حالة امتعاض تنتظر فرصة التعبير،والاحتجاج،كما عمل النظام علي غرس بذور الفتنة القبلية، وتفشي العنصرية لكن الثورة ضمدت جراح الوطن المكلوم وعندما دمغت الحكومة طلاب دارفور كذبا هتف الشعب السوداني من شماله الي جنوبه وشرقه الي غربه ووسطه (كل الوطن دارفور)ومن أبرز علامات هذا الحراك أيضًا حرصه على الطابع السلمي ورفض أي شكل من أشكال العنف، فخلال نحو أربعة أشهر لم تُسجَّل حادثة تخريب، ويتميز هذا الحراك أيضًا بوقوف بعض الطرق الصوفية التي تنتشر في السودان على نطاق واسع إلى جانبه، ونري لهذا التحول دلالاته،ومنذ انتفاضة سبتمبر 2013، تمكّن الشباب والطلاب المنتفضون، عبر ممارسة العمل الطوعي، والتشبيك الرقمي لمجموعاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، من تحقيق درجة عالية من التنظيم والتنسيق،وقد وجد هذا الحراك الرقمي فرصته ليتحول إلى فعلٍ لافت في الشارع مع اشتداد الظروف المعيشية، وسارعت الحكومة، منذ بداية الانتفاضة، إلى إغلاق منصتي فيسبوك وواتساب، إلا أن شيوع امتلاك الهواتف الذكية، والمعرفة بخاصية الشبكة الافتراضية الخاصة VPN، مكَّنا الشباب والكبار، معًا، من الالتفاف على الحظر الحكومي. ومن مؤشرات نجاح هذا التواصل الشبكي الواسع.
  ثورة شعب

يقول الخبراء انه ليس هناك ثورة بدون وعي ثوري، وليس هناك ثورة بدون إرادة ثوريَّة، وان الإرادة لن تنهض بدون روح الوطنية النابض في جسم الثَّائر،فالثَّورة وعْي متكامل عند الشُّعوب المقهورة، وهي علاج ناجع للشعوب المغلوبة على أمرها، لتنزع الذل والمهانة، والفقر والجهل والمرض،فالثورة يمكن وصفها بثوب مطرز بخيوط الإنصاف لتحقيق العدل والمساواة بين أبناء شعب واحد،وهي قلم ذهبي يسطر تاريخ المقهورين بكرم وشرف، فثورة السودان اليوم صارت ثقافة شعبية اجتماعية تجدها عند الاطفال وبراءتهم ولعباتهم، وقصصهم ،تجدها لدي الثوار في قصص صمودهم، وجسارتهم ،تجدها في زغاريد النساء التي تلهب الثوار ،تجدها في المستطيل الاخضر، وعند احتفال لاعبي كرة القدم بتسجيل هدف  ذكي ،الثورة حاضرة في مسارحنا ،وفي غنانا المشتهونو،ومساعد علي تحول هذه الهبّة الجماهيرية بهذه الوتيرة السلمية المتصاعدة، هو إمتلاكها لروح الإصرار، والتحدي، وبتقديمها كل هذه التضحيات إلى انتفاضة شعبية هادرة ،حيث إتسعت قاعدتها الجماهيرية ،والتفت حولها الجماهير،وبخلفية بسيطة نجد ان الإحتجاجية الشعبية جاءت بعد سنين طويلة من الإفقار الاقتصادي، والقمع ، فالبركان الذي انفجر قد سبقته شروط ،ومسببات امتدت لأعوام عديدة، وما كان يعتمل في داخل هذا البركان الخامد إنفجر في لحظة الذروة، لقد زاد من حدّة غليان الشارع الاستفزاز للشعب، والأزمة الإقتصادية الأخيرة، ونهج السياسة الإقتصادية القائم على آليات السوق، وتوصيات المؤسسات الرأسمالية الدولية، ووصفاتها في التقشّف، والخصخصة، وتخفيض الدور الإجتماعي للدولة مع ارتفاع مستويات الفساد المالي، والنهب الممنهج، وفشل كل الوعود التي اطلقها النظام لمحاربة القطط السمان، والتي تعتبر صراع أجنحة، فملايين العاطلين عن العمل من الشباب الخريجيين ومئات الآلاف من المزارعين، والعمال وفئات واسعة من الطبقة الوسطى التي اندثرت قد وجدوا انفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الرضوخ للأمر الواقع والاستمرار بشروط الحد الأدنى من العيش، وبشروط الحد الأقصى من قمع الحريات المدينة والسياسية وإمّا الانتفاضة ومحاولة تغيير الواقع،وبالفعل انتصر هذه المرة هو الخيار الثاني، ولو كانت تكاليفه مرتفعة، ولكن لم يكن امام الشعوب حل آخر مفضل ، وفي المقابل لم يخرج النظام عن أساليبه التقليدية في القمع، والبطش لكل معارض، كما ما زال مستمرًا بسياسة تمرير الوقت ريثما يتوصل للقضاء نهائيًا على كل صوت معارض بكافة الاساليب الممكنة، كما أن النظام ما زال يلوّح بسياسة التهديد بالأوراق التي يملكها امام الدول الكبرى،(الارهاب والهجرة غير الشرعية) ولكن لا يوجد حتى اليوم مؤشر على إنه سيخاطر بلعب هذه الأوراق ،صحيح ان بعض الدوائر الدولية ما تزال تجد في النظام ضمانة للاستقرار في المنطقة،وإن أقصى ما تريده هذه الدوائر هي بعض المكاسب السياسية المتعلقة بترتيب أوراقها في المنطقة، ولا يخفي على أحد أن هذه الدوائر لا تضع في حساباتها مصالح الشعب السوداني وطموحاته المشروعة في الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية،لكن هناك دول مشغولة بالازمة السورية، والصراع الاقليمي بالمنطقة التي تعيش سيولة غير مسبوقة، وبحسب بيان لحزب الامة القومي فأن ميزانيةهذا العام 2019م تُنذر البلاد بكارثة كبـرى، بما فيها من عجز، وزيادة في الانفاق، وضعف تمويل الانتاج، وإهمـال خدمات ومعاش الناس، يؤكد ذلك ارتفاع الانفاق الي 53% عن العام الماضي، والعجز ارتفع الي 90% واصبح يمثل 25% من العجز الكلـي ومصادر تمويل هذا العجز هي طباعة بلا تغطية، مما يرفع التضخم والاسعار والقروض، كما أن نسبة التضخم المستهدفة 27% وهذه نسبة غير واقعية فالنسبة السائدة 90%، وعَجز الميزان التجاري المستهدف 2,5 مليار دولار، والعجز الفعلي في ظل الصـادر والوارد لا يقل عن 6 مليار دولار في العام هذا العجز مرشح للزيادة في ظل الفجوة بيـن سعر الدولار في السوق الموازي وسعر آلية السوق، إضافةً الـي أن شُـح  النقد نَسـف ما تبقـي من ثقة في النظام المصرفـي وانكسار الدورة النقدية، هـذه المؤشرات تؤكد بأن هذا النظام مستهدف لشعبنا في معاشه واستقراره، فكلفة بقاءه باهظة، ورحيله أول خطوات التعافـي الاقتصـادي.

ميزات الثورة:

كشف الاحتجاجات منذ بدايتها عن مجموعة من الخصائص، منها سلمية المواكب ،والالتزام بالمواعيد والدقة  في التنظيم،كما يتميز الحراك  بمستوى عالي من الوعي، والتحضر، وتدل علي ذلك مؤشرات عديدة مثل تقديم المياه ،والعصائر للثوار والمساهمة في اصلاح تهشيم زجاج عربة احدي المواطن تهشم بالخطاء، ولم تسجل المواكب التي دخلت شهرها الرابع اي حادثة،وتنظيف الشوارع ،كما لم ينسي الثوار رد التحية بأحسن منها ،وذلك من خلال تسير موكب الي منزل المناضل المهندس صديق يوسف عميد المعتقلييين، وتكريمه بمسجد الملازميين ،فالميزة المهمة ايضا تتمثل في الحشد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ولعبت صفحات الفيسبوك دورًا أساسيًا في نشر الفكرة والوعي بين المواطنين، وحشد الجماهير، وحثها على أخذ الاحتياطات اللازمة كعدم الاصطدام مع الأجهزة الأمنية، وعدم الاستماع إلى الشعارات المنادية بالعنف والشغب، ويشارك في المواكب كل الفئات العمرية، والطبقات الاجتماعية، وفئات من المستويات التعليمية والثقافية كافة، رجالاً ونساءً، وشباب ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي (خاصة فيسبوك) في حشدها،فضلا عن تجنب استخدام أساليب الشغب والعنف اللفظي أوالمادي،وتوحيد الشعارات والمطالب التي رفعها المواطنون، ونادوا من خلالها بالتغيير الجذري للحكومة، والإصلاحات الشاملة لكل المجالات سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا،وعكست المواكب  صورة إيجابية عن الوحدة الوطنية، بحيث لم تظهر شعارات عنصرية، فقد تمكنت الثورة من توحيد الصفوف، وتجاوز معيار الجهوية والعرقية والإثنية بل العكس عندما اتهمت السلطات ابناء دارفور ببعض الاحداث هتف الثوار(كل الوطن دارفور) كما فشلت كافة الخطوات التأمرية التي سعت لدمغ الثورة بأنها تحركها أطراف خارجية،المدهش في الثورة هو مشاركة المراة بشكل كبير وفي كل المواكب والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية.(يتبع)تنحي بالتقسيط المريح

Pin It

السودان..انتصار الثورة والدولة العميقة(الثامنة)

الخرطوم:حسين سعد

مبروك للشعب السوداني بكل فئاته علي نجاح ثورتنا الظافرة التي أدهشت العالم لجسارتها ،وصمودها في الاستمرار أمام أدوات القمع ،والبطش التي لجأ إليها النّظام، لكننا نري ان هذه الثورة  ما زالت تواجه تحديات متعدّدة،ليس أقلّها المحافظة على الوجدان المشترك الذي اعتدى عليه النّظام، وتأكلت بسببه الوحدة الوطنيّة ، وتصاعدت بشكل غير مسبوق القبلية،والتحدي الاخر الذي انجبته الثورة هم اللاعبين الجدد الشباب عماد الثورة وايقونتها،ولابد من التفكير في الكيفية التي يتم عبرها إشراكهم  في العملية السّياسية التي احتكرتها القُوى السياسية التّقليديّة ،ومراكز القُوى القبليّة وغيرها،ونعتقد أنّ زمن التغيير الديمقراطي سيكون ثقيلًا جدًّا ، فهو حتى الآن مكتظٌّ بالآلام، وبمعاناةٍ مستمرّةٍ لم يشهد شعبٌ ثائرٌ لها مثيلًا، لكن ما قد يخفّف من وطأتها ، هو الوعي بالتعقيدات،والصعوبات المحيطة، والثقة بجدوى المثابرة لتجاوزها أو على الأقلّ التخفيف من آثارها، ويخطئ من يعتقد أنّ الثورة ومشروعها في التغيير الديمقراطيّ لا يمكن أن تشوّه، او تصاب الجماهير بخيبة الامل، ففي التاريخ أمثلةٌ كثيرةٌ عن ثورات حقيقيّة،وشاملة،هُزمت مؤقّتًا، والأنكى من ذلك، أن تلي الهزيمة مرحلة يعاني فيها الشعب الثائر الأمرّين قبل أن يتمثّل الدروس، وينهض من جديد بعد معاناة استمرت ثلاثة عقود من الوصاية والاستبداد ،ومن منظومة الخوف والارهاب ومن الإفراط المرير في الإهانة، والإذلال، والاحتقار، هذا التراكم لم يوقظ الشعب ّ فقط، بل أعاد بناء ثقته بنفسه، مغذّيًا شعوره بالانتماء الإنسانيّ ومثيرًا في أرواح أبنائه مكامن الحريّة والتغيير والعدل،والتضحية،فالمشاكل التي يعاني منها الشعب السوداني،نجدها في مجالات عديدة، يصعب تلبيتها على المدى القريب ،والمتوسط، سواء الاحتياجات الاقتصادية أو الحقوق السياسية ،ومطالب المواطنة المتساوية، ويشكّل مسار التّحدّيات  الذي واجهته الثّورة ،والظّروف التي تعاملت معها خلال خمسة أشهر، نموذجًا بالغ الدّلالة حول عبء الاستبداد، وميراث تاريخ طويل من الممارسات الشموليّة، وبالرغم من ذلك فقد نجحت الثّورة في كسر الشّروط القاسية التي كانت تحول دون انطلاقها، لتتعامل بشكلٍ جيّدٍ مع فرص الحشد والتّعبئة الاجتماعيّة، واستخدام أساليب النّضال المدنيّ في مواجهة الأدوات القمعيّة التي استخدمها النّظام في محاولة إجهاضها، متمسكة بخيار السلمية السلمية كمنطلق، وعنوان أساسي لصناعة التّغيير الذي تنشده، لقد استطاعت الثورة  انتزاع الشّرعيّة الشعبية، معيدة إلى واجهة العمل الوطنيّ مكوّنات اجتماعيّةً، وسياسيّةً طالما استبعدت من الشّراكة والسّياسة، مثل: الشّباب الي جانب اعادة بناء التخريب ،وعودة الوجدان المشترك ،ونبذ العصبية، والقبلية، وما قامت به الحكومة يمكن قراءته في الحوار الذي اجراه الزميل صديق دلاي مع القيادي الإسلامي البارز أحمد عبد الرحمن محمد:اشتغلنا بتفكيك الجبهة الداخلية بدون فائدة من ذلك وفرتقنا الأحزاب بقصر نظر عجيب وعجزنا عن تحقيق وحدة وطنية معقولة مع بقية السودانيين، وتعاملنا بطريقة غير مسؤولة مع ثوابت سودانية، فتعاملنا مع قطاعات ضخمة بولائها القبلي والجهوي، وكان تعامل غير مسؤول للقضايا الوطنية،وأضاف: تعاملنا بالولاء القبلي والجهوي وهو عدم مسؤولية للقضايا الوطنية،

التمكين:

خلال ثلاثين عاما أنشأت الانقاذ انظمة متشابكة،ومتداخلة معقدة الحلقات من المؤسسات والقوانين والشبكات، والشركات، والمصاهرات، والعلاقات الداخلية، والخارجية تعمل في مجملها على تمكين، ورعاية وحماية الدويلة الطفيلية في ذات الوقت تعمل على خلخلة وتفكيك وتقويض وانتزاع دولة المؤسسات الرسمية، واقامة مؤسسات بديلة لصالح دويلة الاخوان، كما تم تشريد الكفاءات النزيهة التي كانت تلتزم بصرامة بروح قوانين العمل، وتم فصل مئات الالاف من خيرة كفاءات الخدمة المدنية، والعسكرية الوطنيين المنضبطين المؤتمنين على الحقوق، وتمت عملية احلال شامل بكوادرالانقاذ غير المدربة ممن لهم نصيب متواضع في حظوظ الامانة والنزاهة ترك لهم الحبل على الغارب يديرون مؤسسات الدولة على هواهم، وبما يتواءم مع مصلحة الانقاذ انفاذا لنهج التمكين،حيث تم تدمير السكة حديد، والخطوط البحرية ،والنقل النهري ،المواصلات السلكية واللاسلكية، وبيع أصول مشروع الجزيرة، وغيرها من المؤسسات القومية ،اما محاربة الفساد فقد فشلت كل محاولات المحاربة التي إنشأت لها العديد من من المؤسسات، واللجان أخرها وحدة محاربة الفساد،والاعتداء علي المال العام فتكفي نظرة واحدة الي تقارير المراجع العام التي توضح حجم الفساد المحمي بالقوانيين،

الدولة العميقة

تصف تقارير اعلامية الدولة العميقة بأنها عبارة عن شبكة معقدة من لوبيات مالية وعسكرية وأمنية وسياسية وقبلية، وهي شبكة متينة في قوتها، معقدة في تركيبتها، ومتباينة في أهدافها التي تسعى إلى المحافظة عليها، هذه المنظومة لها ارتباطات، وعلاقات بقوى مشابهة على المستوى الإقليمي والدولي، وتعتبر الانقاذ نموذج فعلي لفكرة الدولة العميقة، وهي ،واحدة من انظمة كثيرة تكتسب الكواليس فيها أهمية أكبر من خشبة المسرح نفسها، فالقابعون في هذه الكواليس لا يطمعون في الظهور، ولا يبحثون عن إعجاب من أي أحد، ولا تشغلهم كثيراً مسائل مثل البطولة أو الكاريزما، أو ما سيقوله التاريخ عنهم، في أفضل الأحوال، يمكن أن تنحصر أمنياتهم بخصوص التاريخ في أن يغض الطرف بالكامل عن سيرتهم ،وأن يطوي صفحاتهم بكثير من الهدوء، ولمعرفة الإحاطة بالدولة العميقة أو الإمساك بأطرافها،لابد من تعريف الدولة العميقة،وهي عبارة عن تحالف عميق يجمع في طياته بنيان الدولة المختلفة، من جهاز إداري وسياسي وإعلامي، ومثقفين ورجال دين ودعاة وشيوخ قبائل ورجال أعمال، ويستثني أفراده من أي محاسبات أو مسائلات، وعدم تعرضهم لأي متابعات قضائية إن اهتز النظام القائم أو استجدت أحداث من شأنها زعزعة المنظومة التي يستظلون بظلها ويحتمون بسلطانها، وينهبون ويفسدون بوجودها،وفي سياق ذو صلة تصفها تقارير اعلامية بأنها: تركيبة معقدة ومتداخلة أشد التداخل، تجتهد ألّا تترك مجالاً إلا واكتسحته وزرعت أذرعاً لها فيه، سواء كان ذلك المجال سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو حتى رياضياً،وهذا يعني أن اختراقها قد يكون محالاً، وتفتيتها من الداخل أمر يحمل الكثير من المجازفة والخطورة، إذ قد يتفتت بتبعاتها كيان الدولة ككل، لذلك فإن إزاحة رأس النظام، باعتباره أهم مكون للنظام، لا يؤدي إلى انهيار المنظومة بقدر ما يعني تواري ذلك المكون لفترة مناسبة تتيح له الفرصة ليتهيأ للعودة  بقوة، من خلال المؤسسات الجديدة التي ما زالت عناصر الدولة العميقة فاعلة داخلها، وذلك عن طريق محاولة خنقها وزرع القلاقل فيها حتى تضعف وتتهاوى، أو القبول بها كأمر واقع، مع عدم الانصياع لقوانينها، والعمل على إفشالها بجعلها تعمل في الحدود الدنيا من القدرة، والرهان على الزمن حتى تفقد ثقة الجمهور، وهو ما يضعفها ويجعلها تتهاوى وتفشل.
كيف تعمل الدولة العميقة؟

من أذكي أدوات عمل الدولة العميقة حتي تحافظ على شبكات المصالح بداخلها هو استخدام العنف في إطار حالات استثنائية خارج إطار القانون، وهو ما يعرف بحالة الاستثناء، والتي يتم فيها اتخاذ العديد من الاجراءات الأمنية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي من الخطر الخارجي، وأنه هناك دائما عدو مترصد لابد من التأهب دائما لصده عن ما يشكله للدولة من تهديد، وفي إطار ذلك تقوم الدولة بقمع المعارضين، وكل من هم لا يشعرون بالرضا عن أداء الدولة بشكل عام، والسياسي بشكل خاص، ويكون الهدف هو إضفاء طابع قانوني على حالة الاستثناء، وليس بعيدا أن يتم استغلال المؤسسات الدينية التي تسيطر عليها الدولة لتبرير تلك الاجراءات من الناحية الدينية حتى يتم إضاء طابع (شرعي – ديني) على ممارسات الدولة الأمر الذي يدفع المواطنين بالتزام الصمت، وتقوم الدولة العميقة أحيانا بانتهاج الحيل والخداع على المواطنين من أجل الحفاظ على النظام العام ومنظومة القيم والمعتقدات المتعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر للدولة، الاداء الاخري التي يتم استخدامها  هي الجهاز الاداري البيرقراطي ،وهو أحد أدوات الدولة العميقة، لجهة تطويل العمليات الادارية على المواطنين، والتي من خلالها يعمل الموظف على الحفاظ على النظام ،وعدم إعطاء المواطن الفرصة بالاعتراض أو احداث خلل في تلك المنظومة، أيضا تقوم الدولة بامتلاك أدوات الاقتصاد والتحكم في الاسواق من أجل الحفاظ على شبكات المصالح الاقتصادية التي تستفيد بشكل ما أو بآخر ببقاء النظام العام على ما هو عليه وفي سبيل ذلك تقوم بافتعال الأساطير والحكايات التي من خلالها تتحكم في مسألة العرض والطلب واتجاهات السوق، فضلا عن قيام الجهات السيادية بامتلاك العديد من الشركات الاستثمارية التي تعود عليها بالربح وتكون جزءا من العمليات الاقتصادية، كما تقوم الجهات السيادية بالتوغل داخل الأجهزة الادارية، والتنفيذية داخل الدولة مثل الحكم المحلي من خلال تعيين ممثلين الدولة العميقة حتى تضمن أن جميع مفاصل الدولة تعمل بنفس للوتيرة، بجانب التعينات في مجالس ادارات الهيئات، والشركات المتعلقة بالبنية التحتية، والخدمات الأساسية، وكي تستكمل هذه المعزوفة فإننا نرى الحملات الدعائية في الإعلام، والتحريض، وتوصيل رسائل الدولة بشكل مباشر وغير مباشر، والمساهمة في خلق الحيل والخداع وتضخيم العديد من القضايا الفرعية على حساب القضايا الكبرى لتحريك الرأي في اتجاه يحافظ على النظام ، ولن يكون هناك مجالات للشك في خضوع وسائل الإعلام المختلفة لأجهزة الدولة العميقة التي ترعى وتمول مثل ذلك الدور.

الخاتمة

أّن زمن التغيير الديمقراطي سوف يطول، وستزداد تكلفته أيضًا، نظرا للخصوصيّة التي تميزه، والتعقيدات التي تعترضه، حيث يقع السودان كما قلنا ضمن سباق محاور اقليمية، ودولية بعضها تتحكم فيه مصالحه التي لا تحبذ التحوّلات الديمقراطيّة،وبعضها لم يتفاعل مع  يعانيه  الشعب السوداني لذلك كانت مواقفها اثناء الثورة ما بين الصمت الخجول والسلبية  والتردد،وأخري تخشي التداعيات التي سوف يخلقها قيام سلطةٍ ديمقراطيّةٍ في السودان،لذلك نري ان مشروع التغيير في السودان سوف يواجه مصيره، وحيدًا، وأنّ ثمّة قوًى إقليميّةً ودوليّة مؤثّرة، وفاعلة تقف سدًّا في وجه مطالب الناس في التغيير، لذلك نري  أنّ المستقبل لم يعد يقتصر على توازناتٍ داخليّةٍ صرفة، فقد أفضى طول أمد الصراع،  وحالة العنف المفرط  الذي مارسته الاجهزة الامنية، والسياسيّة، وتسارع التدهور الاقتصاديّ، إلى استجرار أدوارٍ خارجيّةٍ واسعة، الفرضية الاخري والمهمة هي ان النظام السابق هو من نوع الانظمة الأبعد سياسيًّا عن شعارات الحريّة والديمقراطيّة، والأكثر استسهالًا للتجاوزات والأعمال الانتقاميّة، وتتصرّف، وكأنّ ليس من رادعٍ يردعها في توظيف مختلف الأدوات ،ومايفسر ذلك تخوفهم من شعار الثورة (اي كوز ندوسو دوس)اخيرا نري ان  ما يطيل آلام المخاض للانتقال الديمقراطي، وبناء دولة المواطنه، يتمثل في واقع المعارضة، وما تعانيه من تشتّتٍ، وتباينات، وعجزها عن إظهار صورةٍ موحدة ،ومقبولة لكلّ مكوّنات المجتمع يمكن أن تزيل ما يكتنف المشهد من التباسات، حيث يصف البعض المعارضة بأنها ماتزال عاجزةً الاتفاق علي وثيقة موحدة،فضلا عن تأدية الدور القائد أوعلى الأقلّ مواكبة معاناة الشعب وهمومه، فضلا عن قصورها في بناء قنواتٍ للتواصل والتفاعل معه، ومدّه بأسباب الدعم والاستمرار،ونري ان المعارضة لم تنجح حتي الان في معالجة هذه الثغرة، ونيل ثقة الناس، وقيادة مشروعهم في التغيير الديمقراطيّ، كما انها لم تنجح في إظهار نفسها كقدوةٍ حسنةٍ في المثابرة، والتضحية، وضرب النموزج اللافت في الالتزام بسلوكٍ ينسجم مع شعار الحريّة والتغيير،ويبدي أعلى درجات الاستعداد للتسامح واحترام التنوّع والتعدد.

Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

420 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع