ابحث عن

السودان كله نوبة

الخرطوم سلاميديا

الباقر العفيف

وجُهَيْزَة التي أتتني بالخبر ليست تلك المرأة صاحبة المثل الشهير، والتي دخلت على رهط رجل مطلوب في دم بينما هم يفاوضون أهل القتيل في محاولة لإثنائهم عن الأخذ بثأره، يلتمسون إحدى الخصلتين إما العفو لوجه الله أو قبول الدية منه. فما كان من جهيزة التي يكاد "الشمار" يفتك بها، إلا وأن ألقت في وجوههم الخبر الحار Breaking News : أن بعض أهل القتيل قد ظفروا "بزولهم" "ولحقوه أمات طه". فانفض سامر القوم وتبدَّدت خطبهم البليغة في الهواء، بعد أن قَطَعَتْ جُهَيَزَة قول كل خطيب.
أما جهيزتي التي أحدثكم عنها هنا، فهي علوم الجينوم ومعامل صاحبة الجلالة الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا العظمى، لفحص الحمض النووي أو ما يعرف بال DNA. وبما إني صاحب فرضية في أمر هوية السودانيين المنحدرين من على ضفاف النيل بوجه عام، وقبائل الشايقية والرباطاب والجعليين على وجه الخصوص، ممن فقدوا لسانهم النوبي وتبنوا العربية كلغة أم، بأنهم نوبا مستعربون. أي أنهم ليسوا عربا كما يدّعون، وأنه لا تجري في عروفهم دماء عربية، وأن جَدَّّهم العباس جَدٌّ مُنتَحل. وأنَّهم قتلوا جَدَّهم الحقيقي (النوبي) قتلا معنويا ورمزيا، ومحوا ذكره من وجدانهم، ثم محوا ذكره في العالمين. وتبنوا جَدَّّا بديلا عنه، هو العباس ابن عبد المطلب. وبناء على ذلك فهم مصابون بعقدة أوديب (الذي قتل أباه) من ناحية وبعقدة عنترة بن شداد (الذي كَرِهَ أمَّه) من ناحية أخرى.
وقد رددتُ جميع مشاكِلِنا السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية لهاتين العقدتين بالذات. فنحن، السودانيين الشماليين، لا نقبل أنفسنا كما هي ولا نتصالح معها. ولا تبدو أرواحنا مرتاحة داخل أجسادنا، كأنما كل فرد منا "فيه شركاء متشاكسون" وليس "سَلَمَا" لرجل أو امرأة. لا نريد أن نكون سودانيين وكفى، ولا نريد أن تمتد جذورنا داخل حدودنا مع النيل الخالد، وكأننا لا نستذيق المياه العذبة، ولا نريد أن نعانق الاهرامات التي بناها أجدادنا الحقيقيون الذين أنكرناهم فصرنا كمن ينكر ضوء الشمس من رمد. "فسبحان واهب العقول ومُعْمِيْهَا" كما يُعَبِّر الشاعر معروف الرصافي.
وقد أزْعَجَتْ هذه الفرضية كثيرين، وأثارت غضب كثيرين، وعرضتني للنقد الرصين وغير الرصين. وبما إني رباطابي من جهة أبي المتحدر من (الجزيرة أَرتُل قرب الشِّرِيْك) وجعلي من جهة أمي المتحدرة من (نواحي كبوشية وكَلِي)، ووفق الأسطورة الشائعة فمن المفترض أن أكون عربيا من الجهتين، جهة الأب وجهة الأم. وأن يفيض جسدي بالدماء العربية "العباسية المباركة" رغم أنف سحنتي النوبية، ورغم أنف الأحباش الذين ما أن حللت بأرضهم إلا و "راطنونني" وأصروا أنني واحد منهم.
فماذا كانت نتيجة فحص الحمض النووي؟ تهيأوا أيها القريشاب والشارباب لخبر جهيزة الخواجية، وأصيخوا السمع:
أنتم أحباش كوشيون نوبيون شرق أفريقيون ولستم عربا أيها الجعلتية..
فماذا أنتم قائلون؟
أتصوركم تقولون :" بالله قوم كده بلا جينوم بلا كلام فارغ! حرَّم عباسيين ولو كره "الكافرون" بأشجار الأنساب... عباسيون غصبا عنك وعن علوم الخواجات "الكضابة". أليس كذلك؟
الآن دعونا نفحص النتيجة:
إن نسبة جيناتي المنتمية لأفريقيا جنوب الصحراء هي ٩٧.٩ ٪ وهذه منها ٩٦.٨٪ تنتمي لشرق أفريقيا. وبالطبع نعرف أن هناك تداخل كبير بين ممالك النوبة القديمة مثل كوش ومروي وممالك الحبشة القديمة مثل بنط وأكسوم. فنحن في الحقيقة شعب واحد من الناحية الجينية ولكن تعددت لغاتنا وأدياننا. أما بقية الجينات المتبقية العالقة بشجرتي النوبية فتبلغ ٢.١٪. وهذه متوزعة بين ثمانية أقسام تفصيلها كالآتي:
جينات تنتمي لغرب أفريقيا نسبتها ٢.٪ (أي صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات تنتمي للمجموعات الأفريقية التي تعتمد على الصيد والجمع (زي الأقزام Pygmies) بنسبة ١.٪ (أي صفر فاصل واحد في المائة) . وجينات تنتمي للمجموعات الأفريقية التي تقطن جنوب الصحراء بشكل عام بنسبة ٧.٪ (صفر فاصل سبعة في المائة). وجينات تنتمي لغرب آسيا وشمال أفريقيا بنسبة ١.١٪ (واحد فاصل واحد في المائة). وجينات تنتمي لشمال أفريقيا والجزيرة العربية بنسبة ١.١٪ (واحد فاصل واحد في المائة). وجينات أوروبية محددة بنسبة ٢.٪ (صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات أوروبية بصفة عامة بنسبة ٢.٪ (صفر فاصل إثنين في المائة). وجينات غير مصنفة بعد بنسبة ٨.٪ (صفر فاصل ثمانية في المائة).
ويبدو أن جهيزة الخواجية أرادت أن تعوضني عن خسارتي للعباس بإخباري أني والزعيم الخالد نيلسون مانديللا تحدرنا من جد واحد. وأن هذا الجد المشترك عاش قبل ١٤٠ ألف سنة. ربما كان هذا أبونا آدم.
وهكذا يضع العلم حدا للأسطورة. ويثبت فرضيتي التي تناوشتها السهام العروبية الصدئة. وكشأننا في سوء الظن بكل شيء حتى العلم، فَهِمَ البعض أن في قولي هذا تقليل من شأن العرب والعروبة، وإعلاء من شأن الأفارقة والأفريقانية، في حين أنني أؤمن إيمانا راسخا لا يتطرق إليه الشك أن الناس كلهم سواء لا يتفاضلون إلا بالقيمة والنبل والأخلاق. إنني أدعو فقط أن نكون "نِحْنَ يانا نِحْنَ.. ما غيرتنا ظروف ولا هدتنا محنة". أي أن نكون كما خلقنا الله، وألا نحاول تبديل خلقه، وانتحال خلق آخر غيرنا.. وألا نقيس أنفسنا بمعيار خارجنا، وأن نكون ممتنين كوننا أصلاء في هذه الأرض التي يباركها النيل سليل الفراديس.. وأن نستعيد آباءنا النوبيين رواد الحضارة الإنسانية.. وأن نبعثهم من مرقدهم الذي حجرنا عليهم فيه.. وأن ننفض عنهم تراب القرون، ونعتذر لهم ونكرمهم ونفخر بهم.. وأن نرعى إرثهم الذي أورثونا لأنه ميراثنا أبا عن جد. فإهمالنا للتاريخ والآثار النوبية والكنوز المعرفية التي تركوها لنا إنما هو ناتج عن نكراننا لأصولنا.. عن نكراننا لهم.. عن قتلنا الرمزي لهم، واتخاذنا أبا بديلا عنهم. ومن هذا الأب البديل نتجت كل آفاتنا وعقد نقصنا إزاء العرب وتذللنا لهم..
فإننا لن نسعد في هذه الحياة ونحن نسعى في مناكبها بشخصيات زائفة.. والشخصية الزائفة هي التي لا تعرف نفسها، ولا تعرف قدرها.. هي التي تكره ذاتها وتنكر نفسها وتريد أن تكون شيئا سواها.. والشخصية الزائفة عبارة عن قشة في مهب الريح، تتجه أنى اتجهت الريح.. شخصية هشة، إمعة، تابعة ورخيصة.. ولقد أَفِضْتُ في الأمثلة الدالة على هشاشة الفرد السوداني المتوسط average بإزاء العرب في ورقتي "متاهة قوم سود ذوو ثقافة بيضاء" فليُلتَمَسْ في موضعه ولكني هنا أتحدث عن هشاشة الطبقة الحاكمة السودانية إزاء نظيراتها في العالم العربي..
لقد جَسَدَتْ هذه الطبقة الحاكمة الشخصية الزائفة منذ الاستقلال، فقد شهدنا كيف أنها فضلت الانضمام للجامعة العربية وأدارت ظهرها للقارة الأفريقية، وأهملت الانضمام للكومونويلث. وسعت لتعريب المناهج التعليمية في الجامعات من منطلق سياسي وايديولوجي استلابي، وليس من منطلق تربوي كذلك أهملت تحقيق السلام في مناطق النزاعات ولم تحمل لأهلها سوى الحرب.. وما ذلك إلا لأن تلك الطبقة كانت ذاهلة عن ذاتها، مغتربة عن هويتها الحقيقية.. تنظر لنفسها كنخبة عربية تجري في عروقهم "دماء شريفة"، وتنظر لمواطني المناطق المهمشة، حيث تدور الحروب، كأشباه بشر "تجري في عروقهم دماء رخيصة"، وهم من ثم لا يستحقون شرف المواطنة.. بل في ظنهم أن مثل هؤلاء لا يساقون "إلا والعصا معهم" كما قال الكارثة الذي يُسَمَّى رئيسا.
بيد أن قمة التجسيد لهشاشة الطبقة الحاكمة مثَّلتْها شخصيات قادة الإنقاذ.. فهؤلاء مستلبون مرتين، الأولى للعروبة شأنهم شأن الجميع، والثانية للإسلاموية. العروبة تدفعهم " لاضطهاد أهل الأقاليم المهمشة، والإسلاموية تدفعهم لعدم الاهتمام بالوطن، لأن الأوطان، حسب فكرهم، "أوثان". وتدفعهم لاضطهاد قومهم ممن لا يعتنقون أيديولوجيتهم. فإذا كان العروبيون عنصريين من جهة واحدة، فإن الإسلامويين عنصريون من ثلاث جهات: ضد الشعوب الأصلية، وضد غير الإسلامويين، وضد المرأة.
فالتعلم الطبقة الحاكمة قديما وحديثا، وليعلم العروبيون والإسلامويون الذين كذبوا المرايا طيلة عمرهم، إن الجينات لا تكذب.. فإن شاءوا استعادوا آباءهم الحقيقيين، واستردوا هويتهم النوبية، ومعها انسانيتهم، وخلعوا عنهم الأقنعة الزائفة، وإن شاءوا استمروا في الحياة وحالهم حال الغربان التي أرادت أن تمشي مشية الطواويس.. فلم تبلغ طائلا ولم تجد مشيتها الأولى وصارت كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

Pin It

ما هو سقف توصيات آلية مبادرة حمدوك؟

 


صلاح شعيب

مشكلة السيد حمدوك الأساسية هي أنه يبحث عن الضوء بينما هو يملأ أرجاء ناظريه. فهو قد أتت به ثورة، ومنحته بثقة مطلقة التفويض الكامل لاتخاذ ما يراه مناسبا في الجهاز التنفيذي. فكيف إذن يعود لنا بعد عامين ليحدثنا عن ضرورة عقد إجماع حول كذا، وكذا، من القضايا العالقة، وكأن التفويض الذي حاز عليه لم يكن من ثورة أجمع عليها شعب السودان؟. وقد توقعت أن صديقنا ياسر عرمان سيكون أكبر معين لرئيس الوزراء في المضي قدما لتحقيق الممكن خلال عامين قبل انقضاء تفويضه. ولكن يبدو أن الأستاذ عرمان لن يعين في هندسة ما أخفاه حمدوك من وضوح مطلوب، وشفاف، مع الثوار في ما خص شمل الإسلاميين في مركب الشركاء، أم لا.
حمدوك يدرك حقا أن الوثيقة الدستورية قررت عقد الانتخاب الذي سيكون بعد عامين، كما جزم وزيره لشؤون الرئاسة الأستاذ خالد عمر. إذن فليس أمام الدكتور أي وقت كثير ليضيعه في تكوين لجنة المبادرة، والتي تنبثق عنها لجان، ولجان..لتتوصل إلى ماذا؟ ..الله أعلم. وما دام العامان سيمران سريعا فأمام حمدوك وقت قصير لإنجاز ما لم ينجزه أللهم إلا لو أننا موعودون بتمطيط جديد للفترة الانتقالية قد يتجاوز الخمسة، أو الستة أعوام، أو قل عشرة فمن يوقف النافذون سلطويا عن رغائبهم في غياب المحاسبة البرلمانية؟. وما الذي يمنعهم عن تجاوز الوثيقة - على عينك يا تاجر - ما دام هؤلاء النافذون قد رموا بفكرة المجلس النيابي المعين عرض الحائط.؟
بجانب كل هذا فإن التنظير الذي احتوته ديباجة المبادرة حول معضلات منعت توافق "الكتلة التاريخية السودانية" ليس شغل حمدوك بالأساس، والإحساس. فالمؤتمر الدستوري الذي اقترحته الوثيقة الدستورية هو الوحيد الذي ستنعقد له الولاية، والأهلية، في بحث هذه المعضلة التاريخية لنظام الحكم، وهناك معضلات أخرى تتعلق بهيكلية الدولة السودانية هي معقدة، ومتفرعة.
فحمدوك ولأن لديه مجرد عامين فقط فإنه بحاجة إلى تجويد أدائه التنفيذي الآن، وهذا هو معنى، ومظان، تفويضه الثوري. فصميم فكرة مبادرته التي جاءت معممة بحيث أن تبين الشياطين في التفاصيل لن تسعفه توصياتها في ضبط الأداء الوزاري الآن. فهناك إخفاقات اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وإعلامية، ودبلوماسية، إلخ تحتاج فقط للمعالجة التنفيذية، ولا أظن أن خلاصات المبادرة تمثل أولويات أفضل من أولوية معالجة هذه الإخفاقات.
الملاحظ أن العضوية الذكورية بنسبة ٩٥ من المئة لآلية المبادرة ضمت تقريبا معظم المؤيدين للشركاء في الحكم الانتقالي، وإذا كان الأمر كذلك أفلا من الأفضل توفير الوقت، والطاقة، إذا تركوا لمجلس الشركاء البديل للمجلس التشريعي نفسه مهمة إيضاح أمر المبادرة، وقيادتها لخواتيمها، حتى يتفرغ الدكتور لشأنه التنفيذي، وما أقسى المهام المدرجة في جدول أعماله!.
دعك من كل هذا لنسأل عن أقصى سقوف التوصيات التي ستخرج بها مبادرة رئيس الوزراء: هل ستصدر توصية بالمصالحة مع الإسلاميين مثلا، هل ستقنع الحزب الشيوعي، وتجمع المهنيين - المهمشين دون عضوية الآلية - للعودة للمشاركة في السلطة؟ وهل تحل التوصيات قضية جيوب الاقتصاد العسكري، والامني، وهل تضع حلولا للإصلاح الاقتصادي العام بعيدا عن الروشتة المعمول بها حاليا، وهل ستعيد السلام على مستوى الأرض، وهل تنادي بتنظيف الدولة من عضوية المؤتمر الوطني؟ إلخ “الهلات”.
إن الناظر للمشهد السياسي اليوم يلاحظ أن مشكلة الفترة الانتقالية واضحة، ولا تحتاج لبحث، أو نظر استثنائي، أو خارق. فهناك كتل ثورية متنائية لا يجمع بينها رابط، وضف المكون العسكري الذي آلت إلى مسؤوليته الشرطة، والأمن. وهناك مجلس الشركاء الذي جمع جزء من مكون قوى الحرية والتغيير، والعسكر، والحركات المسلحة، وحمدوك.
وأهداف هذا المجلس المعين بذكاء متناغمة حتى الآن. وعلى الجانب الآخر هناك جزء من مكون الحرية والتغيير، وجزء من الحركات المسلحة، يقفان على نقيض أهداف مجلس الشركاء، وكما نعلم أن نصفاً من قحت وعد من قبل بإسقاط شراكة المجلس، وسلطته المتضامة. وعلى ناحية ثالثة هناك معارضة الحركة الإسلامية بشقيها الوطني، والشعبي، فضلا عن اتجاهات معارضة أخرى، وهؤلاء يقترب من هدفهم الاستراتيجي سياسيون ليسوا بإسلاميين...سقط بعضهم مع البشير، وآخرون تخلوا عن النظام في الساعة الخامسة وعشرين.
هل تريد مبادرة حمدوك مثلا عجن كل هذا الخبيز السياسي ووضعه على طاولة المشهد السياسي مثلا حتى تتغذى به القيادة الرشيدة للبلاد؟
عملياً، هناك استحالة في توحيد كل هذه النثارات المجتمعية لكونها تمثل جيوبا لمصالح جهوية، وعسكرية، وذكورية، وأيديولوجية، ومجتمعية، موروثة منذ الاستقلال، وأخرى حديثة لا شك. والسؤال هو: إذا كان حمدوك قد عجز في توحيد المكونات التي ساهمت في إسقاط سلطة البشير بهدف إنجاح الفترة الانتقالية فكيف تستطيع مبادرته توحيد أهل القبلة السودانيين جميعهم في مقابل بقية الكتل السياسية غير الثورية؟
عودا إلى بدء: الضوء واضح أمام حمدوك. فأمامه يرى حربا شرسة ضد سلطته يقودها الإسلاميون بطوائفهم كافة، وجزء من قحت ترى بوجوب إسقاطه، ولا مانع في الحوار معه في ذات الوقت، وهناك مكون عسكري يمشي خطوة لدعم الانتقال الديموقراطي وخطوتين لتعويقه.
لو أن قصرت مبادرة حمدوك هدفها على توحيد المكونات الثورية التي قادت الثورة عبر إعلان الحرية والتغيير فإن ذلك يبقى أمرا واضحا وواجبا لدعمهم. ولكن أن تصل توصيات المبادرة إلى تفريق دم الفشل القيادي على الكتلة التاريخية التي يجد فيها الإسلاميون مقعدا ضمن تحالف الراغبين في الشراكة، فذلك بعض من توقع أرجو أن يخيب بشدة.

Pin It

القوميات والسلطة في السودان أو "ما نشر تحت إسم " جنيفر سومر بمداميك"

بقلم : محمد بدوي

في الثامن من أغسطس 2021 ، نشرت صحيفة مداميك الإلكترونية حوار حمل  اسم  الباحثة جينفر    سومر  بعنوان حول ما يجري شمال  دارفور ، ثم عرج على أثر إتفاق سلام السودان 2020 في حالة تعرضت  للقوميات و السلطة في الفترة الإنتقالية ، بعد البحث عن الحوار  الذي لم أجد له اثر  بموقع الصحيفة  التي قامت  بسحبه و الإعتذار بتسبيب أن النشر تم من قبل محرر متعاون مقيم بالولايات المتحدة  مع إضافة إلي أن المادة لا تتسق وشروط النشر لدي مداميك مع ملاحظة أن النشر الذي حظى بالتداول الواسع جاء علي وسائل التواصل الإجتماعي، كما حمل رابط مرجعي لا ينتهي بالوصول إلي موقع الصحيفة علي شبكة الإنترنت .

 حملت المادة في تقديري قاموس لغوي لا يتسق مع مناهج التحليل يمكن رصدها في الجملة الإفتتاحية التي حملت "  ما يجري في شمال زلزال ضخم لكنه متوقع و لابد ان يحدث " بالإضافة تعمد التدليس في النسب الرياضية التي إستندت عليها الحوار في نسب السلطة  في إتفاق سلام السودان وربطها بقومية محددة  " 40%: هذا فضلا عن عدم التثبيت لمصدر التعداد المرتبط بالنسمة للقومية "4% "، ثم دلف الحوار إلي الرسالة المستهدفة من المادة و التي جاءت في صيغة التوصية  عبر عنها ضرورة  كبح الطموح المرتبط بالسلطة "  مجمل الأدوات التي  تم إستخدامها في تقديري سعت  لتدشين حملة في مواجهة قضايا  السلطة والسلام في الفترة الإنتقالية ، في توظيف  هدف لإعادة الخطاب العنصري سعي للتشكيك في عدالة فكرة ونضال حركات الكفاح المسلحة و إستخدامها كجزء لتحريض سالب ضد الكل المرتبط  بالقومية .

إفادة الصحيفة بقيام أحد المحررين بذلك يثير القلق حول المهنية المرتبطة بالمسئولية المرتبطة بمعايير النشر والإشراف، الإنتشار الواسع للمادة في تقديري نجح في الدفع بأهداف الحملة مما يفرض واجب التصدي الموضوعي لها لقطع الطريق  وإبطال " القنابل الموقوتة " في مسار الفترة الإنتقالية ، و حتي لا ننجر إلي أدوات لتفنيد المادة المنشورة ، أجدني أستند علي روح ثورة ديسمبر المجيدة في محاولة للنظر خارج الصندوق  في سعي إلي رؤية موضوعية للمادة المنشروة لكن بتأسيس يرتبط  بمسالة القوميات والسلطة في الفترة الانتقالية ، هذا لا يجعل التعليق / التعقيب يقف علي المقابل، بقدر ما هو  فرز السمين من الغث و النظر إلي توصيات تعزز من المضي نحو الأمام . وفقا للمحاور التالية:

أولاً:  من حيث المنهج إستندت المادة علي   التحليل السياسي بالتركيز المتعمد على العوامل الخارجية دون سواها بشكل حصر  إتفاق سلام السودان 2020 كمصدر لإكتساب السلطة بين أطرافها ،  دون التعرض  للايجابيات الاخري المرتبطة بوقف الحرب و تعزيز نصوص التعاون مع العدالة الدولية ، مما جعل الأمر بدأ بمجافاة الحياد والمنهج العلمي الذي يفترض فيه إستعراض كافة الجوانب .

ثانياً : مسألة القوميات و السلطة في السودان  تستدعي أكثر من منهج للتحليل لطبيعة الحالة  ما يتصل بالعوامل الداخلية والسياقات التاريخية والأنثربولوجية و الإقتصادية المرتبطة ببنية الإنتاج، و لاسيما عند النظر إليها في  الفترة الإنتقالية التي تتيح تتبع مظاهرها التي قد تأخذ أشكال مختلفة كما في الراهن الذي تشكلت فيه سلسلة من الأحداث  بدءاً من الشرق إلي غرب السودان حملت طابع  الصراعات المسلحة في إرتباط لبعض أسبابها بتأثير الشراكة المدنية العسكرية التي قطعت الطريق على التغيير السياسي أو الحلول الآمنة لمجمل  القضايا المرتبطة بالتغيير بما فيها مسالة القوميات دون تغييب المشهد من حالة التأثر بالإستقطاب الحاد لبنيتها نتيجة لسياسات النظام السابق .

ثالثاً : لابد من الأقرار بقصور  إتفاق سلام السودان، حيث غياب  النظر إلى شمول الأزمة  مما ألقى بظلال  التحالفات التي سيطرت على الشراكة على  الإتفاق فنتجت عنه محصلة  أشبه بالتسوية المستندة على حل النزاعات عبر التركيز على بنود السلطة والثروة مع تغييب للأثر الكلي المرتبط بالتغيير السياسي ، ساهمت هشاشة الوضع السياسي وتعدد الأطراف المرتبطة بالسلطة في إرباك التحضير الجيد لملف السلام من حيث المنهج و الإشراف فمجلس الوزراء تنازل عن تفويضه للمجلس السيادي بعد تدخل غير مدروس من قبل  تجمع المهنيين السودانيين والتجمع المدني اللذان دفعا بمسألة ملف التفاوض في وقت كان المجلس العسكري الإنتقالي هو المسيطر على السلطة عبر لقاء أديس أبابا في 15 مايو 2019، الحركات المسلحة في شمولها  فشلت في التوحد في تحالف سياسى بل وحتي على مستوي الحد المرتبط بمواقف تفاوضية موحدة، و هذا الاقرار قد يشكل اولي مداخل للحل . الخلاصة أن اتفاق السلام وما نتج عنه يمثل مسئولية مشتركة لعدد من الأطراف .

رابعاً: بالنظر إلى الجغرافية السياسية  لإتفاق السلام فقد ركز على عدد الأطراف وتغييب محيط الأزمة التي هي محور الإستهداف، فنتجت عنه عملية سيطرة لأطراف الإتفاق و هي حقيقة تحتاج  الي التعامل معها، ولا تزال مسئولية ذلك مرتبطة بمجمل الأطراف كما في الفقرة السابقة بالإضافة الي من هم خارج الإتفاق . 

خامساً: السيطرة  على السلطة التي أشير إليها في ذلك الحوار  حالة غير مكتملة فكما أشرت عاليه أنها مرتبطة بالجزء وليس الكل ، فضلا عن ان الإتفاق الأمر في حد ذاته جاءت طبيعته تحمل سمات التعقيد فيما يتعلق بالتنفيذ الذي سيحيل أطراف الإتفاق إلي دائرة تحمل ما ينتج عن ذلك كجزء من الحكومة الإنتقالية  فتقديم مكاسب السيطرة باعتبارها تصب في هيمنة القومية يجانبها واقع الحال .

سادساً : من اثار سياسة النظام السابق انه عمل علي هندسة اجتماعية بهدف السيطرة السياسية فاثر علي القوميات ففي الراهن لا تبدو ككتل موحدة و متسقة بل بداخلها تباين في الإنتماءات  السياسية  و صراعات تاريخية مختلفة الأسباب بعضها مرتبط بالصراع الطبقي داخلها علي سبيل المثال لا الحصر .

سابعاً :  لا يمكن عزل المادة المنشورة عن كشفها لتطورات تجدر النظر إليها في سياق الظاهرة المرتبطة ببعض أسباب نسق إدارة   ما بعد الإستقلال وقصورها  في إنتاج برامج وطنية  للتعامل مع قضايا  القوميات التي تعرضت لمحن تاريخية مثل الرق، وأثر سياسة  المناطق المقفولة و ممارسة العنصرية وغيرها ، فهذه التطورات تتيح لها الفترات الإنتقالية الظهور في الهواء الطلق كتعبير وتنبيه إلى حقائق الواقع المغروس عميقا في التربة السودانية .

ثامناً : بعض قصور  اتفاقية  السلام أنها انتهت الي شكل من أشكال علاقات السلطة والثروة في مرحلة إنتقالية تتطلب الإنتباه للوفاء بالتحولات التي تمنح إستحقاق خوض سباقات التداول السلمي للسلطة (الإنتخابات)، لأن ذلك احد روافع التحول الأيجابى فى كل الأصعدة نحو أفق يعزز تاريخ و نضال الحركات المسلحة والقوى الديمقراطية وهو ما يجدر الدفع به نحو التحقق  .

تاسعاً : التحولات التي نص عليها الإتفاق في الترتيبات الأمنية في عمليات الدمج والتسريح  قد ينعكس تأثيرها علي بنية الإنتاج  و طبيعة النشاط الإقتصادي مما تتطلب تخطيط وادارة حتي لا تفضي الي نتائج سالبة، مما يتطلب النظر الي الجوانب المختلفة الناتجة عن الاتفاق سلبا و ايجابا في سياق التاثير علي الواقع وليس الاختزال في ربط بعض القوميات بالسيطرة .

عاشرا ً :التعامل مع السلطة في الفترة الإنتقالية لابد له ان  يستصحب  متطلبات الإنتقال المتعلقة بالسؤال الجوهري في كيف يحكم السودان ؟ و استصحاب فكرة الدولة وسجل  طموح السودانيين للديمقراطية والتغيير سيواجه بعقبات واسعة ومؤثرة وهذا ما قصدت المادة المنشورة في تغييبة للدفع الي السالب المرتبط بالتنافس حول السلطة. مع ضرورة معالجة نصوص اتفاق السلام المرتبطة بالإنتقال من مربع حركات الكفاح المسلحة إلى أحزاب سياسية على سبيل المثال عملية تتطلب  جهد كبير ، محصلة ذلك هو التحول إلى أجسام سلمية قومية أو إقليمية وفق شروط القانون الداعم للتعدد و الديمقراطية .

أخيراً : المادة المنشورة وملابسات سحبها إثارتها لمسألة القوميات التي ظلت قيد الإغفال في سياق الحالة السياسية  تعيد واجب الانتباه لقراءة جديدة للاحداث بادوات و مناهج مكملة تتناسب و الأسباب، مرة ثانية مهما كانت اهداف النشر فيجدر التصدي لها ايجابا بالإشارة الي الدفع بمسالة القوميات الي اجندة الحوار الوطني لمعالجة القضايا التاريخية العالقة لأن المنشور كشف خطورة التناول الذي يعمد إلي تفريغ حيويتها و الدفع بها نحو منصات  الاستهداف السياسي .

Pin It

أساتذة وتلاميذ : أين تفترق الطرق ؟ ( 1 )

بقلم: محمد فتحي أورفلي

سيظل التاريخ يحفظ في قلبه دائما مكانا لاولئك الذين احترقوا من اجل ان يضئ الطريق للاخرين ، الشجعان الذين تمردوا علي كل مألوف وعبروا عن رفضهم لكل ماهو مخالف لفطرة الانسان التي خلق عليها " كرامته التي تتجسد في حريته " ..
اصحاب الفكر الحر هم الاكثر حظوة عند نجوم السماء ، اصحاب الهمم العاليه والنفس الكريمه العزيزه والروح المشعة نورا والجباه الابيه التي ترفض الانحناء للظالمين والطغاة ..
ظلت تراودني فكرة الكتابة عن امثال هؤلاء وكان في بالي خمسه اعتبرهم من المميزين والاكثر استحقاقا للكتابة عنهم بمعاييري الخاصه ..
اردت ان اكتب عن الامام الحسين وتشي جيفارا لانهم في نظري اقصي درجات التجلي في معاني الفداء والتضحيات من اجل حرية وكرامه الانسان علي وجه الارض ومع الاسف لم اوفق الي الان في ذلك ، ثم اردت ان اكتب عن الشيخ محمد عبده ومالكولم اكس و المحبوب عبدالسلام ويسرت لي المقادير الامر فقررت في البداية ان اكتب مقتطفات صغيره عنهم ولكن سحبتني الكتابه عنهم الي اعمق مما كنت اتخيل ، وكلما تعمقت في الكتابه ، كلما سحبتني معها الكلمات الي ابعاد اعمق وبألتاكيد ما كتبته حتي الان هو هو مجرد غيض من فيض من سيرة هؤلاء واصر علي تأكيدي بأن جل ما اردته هو ابراز دورهم في حراك الفكر الاسلامي وما يبنهم من متشابهات علي المستوي الفكري والصفات الشخصيه وهم يستحقون اكثر من ذلك دون جدال وهذا حقهم الذي سيحفظه لهم التاريخ الي الابد ..
هؤلاء الثلاثه الذين اكتب عنهم الان اعتبر انهم نموذجا ومثال للعقل النقدي في اعلي تجلياته، عندما يتمرد علي كل المسلمات التي نشأوا عليها وعلي كل المقدسات التي كانوا يعتبرون ان الاقتراب منها امرا من المحرمات البينه التي لا لبس فيها ولا شك ، هؤلاء الثلاثه هم علي حسب الترتيب التاريخي : الشيخ محمد عبده ، مالكولم اكس ، المحبوب عبدالسلام ..
كنت اريد ان اكتب عن المتشابهات بينهم وعن الرابط الذي يجمعهم ، ولكن اتضح لي لاحقا ان الامر يتطلب مني اكثر من ذلك اذا اردت ان ابحر في هذا الباب فعلي ان ابدأ بأساتذتهم اولا، ومن ثم اتحول إليهم حتي استطيع الوصول الي خلاصة الفكرة التي اريد التحدث عنها بصورة اكثر سلاسه ووضوح. لذلك قررت ان ابدا بتناول بعضاً من بعض من سيرة هؤلاء الاساتذة ومن ثم انتقل الي التلاميذ. وسأبدا في ذكرهم متبعا نفس الترتيب والتسلسل التاريخي لهم في ذكرهم والتحدث عنهم ..
جمال الدين الافغاني ..
كان الشيخ جمال الدين الافغاني منذ طفولته متميزا علي اقرانه وبدات بالظهور عليه مبكرا علامات النبوغ والذكاء والتفوق ولذلك استطاع في شبابه المبكر ان يتحصل علي العلوم وان يصبح متمكنا في التحدث بلغات عدة بكل طلاقة وسلاسه ، اضف الي ذلك نشأته في بيت يجمع بين عز السلطه وشرف الدين ، حيث تنسب اسرته الي الامام علي بن ابي طالب وهو ما كان له كبير الاثر في وضع وتراتبية اسرتهم في وسط مجتمعهم ، من وسط تلك البيئة انطلق الشيخ جمال الدين الافغاني الي جولة في العالم الاسلامي لا يحمل معه الا عقل متقد وثقة وعزة بالنفس تنضح بها قسمات وجهه ، وكاريزما لا تخطئها عين ، وشخصية ساحره يعجز الناس عن مقاومتها ، والاهم بالتأكيد ايمان مطلق بفكرته العقائيديه القائمه علي اصلاح المجتمع عبر التجديد الديني الذي يستمد قوته من السلطه التي كانت في ذلك الزمان الخلافه الاسلاميه او الجامعه الاسلاميه كما كان يدعوها ..
في جولته تلك نجح تماماً في امرين ، الاول امتلاك عقول وقلوب الناس جميعا من سلاطينها وعامتها ، والامر الثاني كسب عداوة القادة والرؤساء وهو الذي قاد الي حتفه في نهاية الامر او كما ترجح بعض الروايات عن اسباب موته ، التأثير الاكبر كان في مصر حيث كانت مصر ممثلة في الخديوي اسماعيل رمزا للنهضه المعماريه والاقتصاديه والثقافيه ، ولذلك كان المجتمع مهيئا تماما لاستيعاب شخص وافكار جمال الدين الافغاني التي كانت تعتبر ثورية بمقاييس ذلك الزمان ، اجتذب جمال الدين الافغاني في مصر الكثير من الوزراء ومن المثقفين ومن الشيوخ وعلماء الدين ، ابرزهم عبدالله النديم ، ومحمد عبده ، ومحمود سامي البارودي ..
بسبب تميزه وسرعة صعوده علي راس المجتمع واقترابه الكثير جدا من السلاطين ، كان لابد ان يكون له اعداء يحسدونه ويخافون منه علي وضعهم وقربهم من السلاطين ، وتم تدبير الكثير من المؤامرات ضده ونجحت في معظمها بخلق عداوة بينه وبين السلاطين الذين كان يعيش بقربهم وفي قلب مجالسهم ، ابتداء من الشاه محمد الاعظم بافغانستان ومرورا بشاه ايران ومن ثم خديوية مصر وانتهاءا بسلاطين الاستانه حيث الخلافة العثمانيه ..
ما يهمني من تلك الاحداث هي حادثة واحده ساتناول ذكرها لانها تخدم وتفيد ما اود الحديث عنه وهي حادثة طرده من مصر ..
احتفي الخديوي اسماعيل جدا بالشيخ جمال الدين الافغاني وقربه منه ومن مجالسه واجزل له العطاء ووفر له كل اسباب الراحه وجعله يتفرغ للدعوة والعلم ولم يكن يخشي سطوته وكثرة الحشود حوله بسبب ان الخديوي اسماعيل كان في ذلك الوقت في قمة مجده ولم يكن احدا بقادرا علي هزه او المساس به ، ولما تبدل الحال تماما عندما تولي الامر الخديوي توفيق وذلك يعود الي ان الخديوي توفيق استجاب الي نصيحة البريطانين بأبعاد جمال الدين الافغاني من مصر حتي لا يسبب له المتاعب بسبب دعوته التي اصبحت تشكل هاجسا لدي البريطانين والسلطات المصريه في نفس الوقت ، اضافة الي المؤامرات التي تم تدبيرها من قبل المقربين من الخديوي الذين خشوا علي مكانتهم بسببه ، تم اعتقال جمال الدين الافغاني وابعاده من مصر وترحيله الي الهند واثناء تواجده هناك قامت الثورة العرابيه وتمت هزيمتها واحتلال مصر وابعاد قياداتها بمن فيهم الشيخ محمد عبده ..
عاد جمال الدين الافغاني الي اوربا وتحديدا الي فرنسا واستقر هناك برفقة تلميذه محمد عبده الذي اصبح اكثر تمسكا بافكار استاذه في تلك الفترة بالخصوص ..
تمرد التلميذ ..
كان جمال الدين الافغاني سببا في تحول محمد عبده من التصوف الي الفلسفه وهو الطريق الذي قاد محمد عبده فيما بعد الي التطور فكريا الي درجة التحرر من افكار استاذه نفسها والتمرد عليه ووصل الامر الي درجة المقاطعه فيما بينهم حتي علي مستوي الرد علي الرسائل كما في بعض الروايات ، كان ما يجمع بينهم هو الاتفاق علي ضرورة الاصلاح والتجديد في الدين والنهوض بالمجتمع ، ولكن ظهر الخلاف في الوسيلة التي تحقق تلك الغايه ، ففيما كان الأفغاني يعتقد أن أساس علة المسلمين وضعفهم وتخلفهم عن أمم أوربا الناهضة والمستبدة بقوتها، في تفرقهم وغياب الرابطة التي تجمعهم، كما كان يظن أنه باحياء الخلافة وقيام جامعة تضم الدول الاسلامية تحت الخلافة العثمانية ستحل المشكلة تلقائياً ويكتسب المسلمون القوة والعزة والمنعة ، اضافة الي اقتناعه بأن الاصلاح المجتمعي يجب ان يأتي عبر بوابة السياسة والسلطه ، بتفجير الثورات علي الظلم والاستبداد والقهر ومن ثم يبدأ الاصلاح من اعلي الهرم الي اسفله ، اي عبر استخدام قوة السلطه في انزال الافكار وتطبيقها علي ارض الناس ،اما تلميذه محمد عبده فكان يري ان الوسيلة الانجع الابتعاد اولا عن السياسه وخاصة ابتعاد المصلحين من رجال الدين عنها ومن ثم التفرغ الي التغيير والاصلاح ونشر افكار التجديد الديني من اسفل الي اعلي ، اي من قلب المجتمع ومن بين الناس اولا ، عن طريق اصلاح المناهج التعليميه وهو الامر الذي اجتهد فيه في منهاج الازهر وتطوير واصلاح الدستور وله رؤية مكتوبه لشكل الدستور ، اضافة ايضا الدعوة الي تحرير المراة لاهميتها في تطوير ونهوض المجتمعات ..
هنا تظهر النقطه الرئيسيه التي اريد تناولها وايضاحها عبر هذه النماذج وعن الاسباب التي دعتني لاختيار هذه الشخصيات كنماذج اثق تماما انني عبرها ساكون قادرا علي ايضاح الفرق والتوافق بين فكرة الاسلام السياسي وفكرة الاصلاح المجتمعي والتجديد الديني ، وتوضيح اهمية التفكير النقدي عند تناول اي فكرة مطروحه وايضا توضيح اهمية وتأثير هذه الشخصيات في مسار الفكر الاسلام سياسي عبر تاريخ الامه الاسلاميه الحديث وتأثير استخدام العقل النقدي في رؤيتهم لتلك الافكار وهم اصحاب النفوذ والتأثير الاكبر عليها ، فبالرغم من صدور هذه الافكار من عقليات متشابهة ولكن التطور واستخدام العقل النقدي لدي التلميذ محمد عبده هو الذي احدث الفرق بين الرؤيتين وهو الامر الذي لم يتوفق اليه الاستاذ جمال الدين الافغاني رغم كل ما يملك من صفات شخصيه كانت تؤهله لان يكون اول السالكين لهذا الدرب ، ايضا لاثبات صحة وفشل كل من رؤية الاستاذ ورؤية التلميذ عبر التجارب التي خاضتهما كل الرؤيتين عبر القرون عن طريق اساتذة هم تلاميذ لفكر الافغاني ، وتلاميذ متمردون علي اساتذهم بنفس نهج التلميذ الاستاذ محمد عبده ..


Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

170 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع